كنتُ صبيا ً في السبعينيات .. تأريخ العام بمنظور خاص
يبدو الناقد السينمائي و الأدبي محمود عبد الشكور في كتابه كنت صبيا ً في السبعينيات الصادر مؤخرًا عن دار الكرمة وكأنه يسعى للقبض على حقبة زمنية يخشي اندثارها في غياهب الذاكرة ، فترة وصفت دوما ً بأنها تمهيدا ً للبلاء الذي حل بعدها ، لكن في هذا الكتاب نكتشف عكس المُتداول رؤية مُغايرة .. نرى تاريخا ً يُعاد تشكيله من جديد ، و أمة تبدأ حياه جديدة يكون الشاهد عليها عيون طفل تلتقط التفاصيل بدهشة، و تُدونها بدهشة أكبر .
الموت هو بداية و نهاية الكتاب .. بين رحيل زعيم و أغتيال رئيس تنبض ذكريات هي مزيجا ً بين الأبيض و الأسود و الألوان ، يبدو الفصل الأول و كأنه تأسيسا ً للذاكرة التي بدأت مراحل وعيها بوفاة جمال عبد الناصر .
المُثير أنه ظاهريا ً يحكي صاحب عاشق الأطياف عن نفسه لكنه في الحقيقة يحكي عن كل منا ، تقريبا ً - حياة المصريين واحدة تتشابه بشكل أو بأخر - بمجرد قراءة تلك الذكريات تطفو تلقائيا ً ذكريات القارئ الشخصية .. تستعيد الذاكرة بعض من وهجها ، فعندما يسرد ذكرياته عن المدرسة و اول يوم دراسة و أول حقيبة و الأدوات المكتبية التي أسِتخدمها .. دون قصد أستدعي ذكرى تلك الفترة .. أول لمسة لحقيبتي الجلدية و القلم الرصاص و الممحاه .. ومذاق أول يوم دراسي ممزوج بطعم الملح الذي ذرفته مع دموعي بعد أن غادرت أمي و تركتني وحيدا ً مع أناس لا أعرفهم.
مرت حياة صاحب سينمانيا بالعديد من المحطات الفارقة ، كل مرحلة تُمثل أكتشافا ً جديدا ً يُضاف للذاكرة ، بدء معرفته بمعشوقته السينما من خلال زيارة جماعية مع أصدقائه يكتشف فيها الشاشة الكبيرة و السيارة التي يخشى أن تصطدم به ، رسخت هذه الزيارة لعشق سيمتد و يتشعب حتى يصل به لإحتراف النقد السينمائي . ثم يكتشف التليفزيون الذي يُشكل طفرة حياتية و ثقافية ليس بالنسبة له فقط أنما على المستوى العام أيضا ً ، فمن عاصر بدايات الإرسال التليفزيوني يتحسر على بداياته و يسرد ما تيسر من ذكريات البرامج التي ذخرت بها الشاشة وقتها رغم وقت ارساله القليل نسبيا ً مقارنة باوقات البث حاليا ً .
تلتقط عيناه الدِهشة تفاصيل دقيقة للغاية بدءا ً بالأفلام و المسلسلات التليفزيونية التي وصلت لعصرها الذهبي في نهاية السبعنيات مرورا ً ببرامج المنوعات و الثقافة ، حتى الأعلانات .. و المُلاحظ أن الاعلانات تُمثل اشارة للحالة الاقتصادية و الاجتماعية مثل اعلانات مساحيق الغسيل سافو " حافظ كيانه " أو رابسو ، واعلانات الافلام السينمائية و اعلانات شهادات الاستثمار التي ظلت لسنوات طويلة هدايا النجاح لاجيال عديدة ، واعلانات المواد الغذائية مثل ريري " هاتلنا منه باكو واتنين " و غيرها .
ذكر محمد حسنين هيكل فى احدى كتب سلسلته الشهير "حرب الثلاثين سنة " فيما معناه : إن كان القرن العشرين من أعظم الفترات التاريخية فالستينيات من أخطر العقود في هذا القرن " لكن محمود عبد الشكور يُخبرنا أيضا ً بأن السبعينيات أيضا ً تحوي الكثير من الحوادث الفارقة في مجرى التاريخ .. نصر أكتوبر .. معاهدة السلام المصرية الاسرائلية .. وفاة ام كلثوم .. و فاة عبد الحليم حافظ .. تحول كامل في المجتمع من مجتمع اشتراكي في الستينيات إلى مجتمع استهلاكي في السعينيات و تبعات هذا التحول على الناحية الاقتصادية و الاجتماعية .. و الأهم انه يرصد تلك التغيرات ليس من القاهرة انما من قلب الصعيد .. الرؤية من زواية اخرى غير التي اعتدنا عليها في اغلب القراءات التي ترى التغير من العاصمة ثم يمتد أثره إلى الريف أو الصعيد ، هنا العكس التغير من الصعيد و يصل أثره للعاصمة ، مثل الفلاح الذي هجر أرضه و سافر إلى ليبيا أو دول النفط و عاد بعد سنوات ليس مُحملا ً بالمروحة أو الكاسيت فقط أنما بما هو أعمق عاد بثقافة مغايرة تماما ً عن ثقافتنا المُنفتحة .
و ذلك يقودنا لنقطة هامة وهي التحول الكامل في الشخصية المصرية في السبعينيات و تحديدا ً من الناحية الدينية ، فبعد عودة المصريين من الخليج و نشوب الحرب الافغانية الروسية و اندلاع الثورة الإيرانية و ظهور الدعاه مثل الشعراوي و الباقوري و عبد الحليم محمود أصبح مألوفا ً رؤية الرجال بالجلباب الأبيض السعودي بعد أن كان يرتدي الجلباب الصعيدي ، و أصبح يضع على رأسه قطعة قماش بيضاء بعد أن كان يرتدي طاقية صوف . و بالتالي ظهر غطاء الرأس ( الحجاب ) على استحياء في البدء ثم أنتشر بسرعة و تبعه أنحسار موضة الفساتين القصيرة و الجيبات فوق الركبة ، و النظر إلى تدين المصريين بأعتباره تدين منقوص ، باختصار تغير مفهوم الدين بعد صعود الجماعات المُتأسلمة و واكب ذلك التغير موجة اعلامية و صحفية لعل أبرزها ظهور السادات بلقب جديد هو"الرئيس المؤمن" .
من ضمن المحطات الفارقة أيضا ً اكتشاف القراءة و الولع بالكتب التي ساهمت بحد كبير في تكوين شخصيته واثرائها .. ألتهامه كل ما يقع تحت يده من كتب الفلسفة للكتب الأدبية وغيرها فتح له أبواب من المتعة لم يتخيل وجودها ، فتعود على القراءة المنتظمة ليس فقط للكتب بل أضاف اليها المجلات مثل اخر الساعة و اكتوبر كلاهما كانا في فترتهما الذهبية في ذلك الوقت .
المُلفت أنه تعامل مع الأغاني بإعتبارها شاهدا ًعلى العصر في تلك الفترة بدءا ً من اغنية محمد الكحلاوي " لاجل النبي " التي يصدح المنشد فيها " لاجل النبي تنصر بلادنا و النبي " مرورا ً بأغنيات عبد الحليم ذات الشعبية الجارفة وقتها مثل "رسالة من تحت الماء" " و قارئة الفنجان " و حتى الأجيال الجديدة مثل محمد منير و محمد الحلو و علي الحجار و عمر فتحي و سوزان عطية و ميادة الحناوي و سميرة سعيد .
قدم محمود عبد الشكور سردا ً سلسا ً نجح في جذب القارئ من الفصل الأول، ولا يملك حياله ألا أن يستكمل القراءة ليستعيد ذكريات كاتبها التي بالضرورة تفتح المجال لفيض من الذكريات الشخصية التي ستصادف ارتبطاها بالحياه العامة .. مما يجعلنا أمام تجربة إنسانية شديدة الثراء تروي تاريخا ً عاما ً من منظور خاص .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة القاهرة المصرية