“كنت أرى البحر”.. نوستالجيا الذكرى

كنت أرى البحر
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شيرين ماهر

وسط أحراش الماضي وقُصاصات الذكرى المتراكِبة، راح ينسج عالمه الخصب الذي يشبه شريطاً سينمائياً شديد التركيز، معتمداً على الإضاءات التى ترصد لحظات شديدة التلقائية والبداهة، وإن كانت فى واقع الأمر تفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات أكثر رحابة من كادر اللقطة المكتوبة.

“كُنت أرى البحر”.. متوالية قصصية للكاتب والروائي المصرى أشرف العوضى، صادرة عن دار ليان، وهى تتخذ طابعاً مميزاً بين نصوص السرد القصصي، فعندها يشرع القارئ فى مطالعة السطور الأولى يجد نفسه مشتبكاً مع عالم تصنعه التفاصيل الصغيرة التى ربما ضاعت من جعبة الحياة والذاكرة، لكنها لازالت حية وناضجة فى ذاكرة الكاتب، تروي بداخله قناعات بعينها.

الكتاب من القطع المتوسط وهو مقسم إلى ثلاث دفقات شعورية، مثلما وصفها الكاتب، لكونها هكذا بالفعل، فكل دفقة تجسد فترة زمنية وشعورية فى حياة الكاتب، والتى يبحر خلالها في ثنايا تجربته الحياتية منذ الطفولة وحتى الأن، واضعاً خطوطه العريضة التى تتجلى معها خصوصية عالم القرية الذي شكل وجدانه بسلاسة وعمق فى آن واحد.

وكأنك تُطالع صندوقاً عتيقاً يمتلئ بالحكايات وتنطلق منه روح الماضي فى سطوة تجذبك نحو الاستغراق أكثر واكثر بين جنبات السرد، حيث يسترجع “العوضي” طفولته وتلك الوجوه التى أحاطت به وتركت بصماتها المؤثرة فى حياته.. لقطات أرشيفية لازالت ترسخ في الذاكرة الخصبة وتنحت فى النفس ممرات وعرة تتزلج عليها الأيام.. قيم عتيقة وأخرى مستحدثة تنصهر فى رحم الحياة وتبعث ميلاد كائن جديد يُدعى “الحاضر”.. الحاضر بكل ما يحمله من شغف الماضي وغيوم المستقبل وتسلُل الدفء الهارب من تفاصيل كانت بالأمس تتوهج معها الأمكنة والشخوص.

يبحر الكاتب عبر سرده الهادئ، كالهائم مع مركبه الشراعي فى خلوة نيلية يكسوها الشفق، فتنسال الذكريات كـ “خرير” الماء المُنساب فى بهو النفس التواقة للحظات من التشبث بالأيام الفواحة التى مرت ولم تنهزم تفاصيلها أمام قطار الزمن المُهرول على قضبان متطايرة، فإذا بالحنين والنوستالجيا يشكلان حجر الزاوية في كل أقصوصة يرويها الكاتب وينطلق منها إلى أخرى.

لم تكن أقاصيص فحسب بقدر من كانت لوحات لحظية تقبض على مضامين خفية تتوارى خلف الظاهر منها، وتترك خلفها الكثير من الأسئلة المفتوحة.. ومع الكلمة الأخيرة فى نهاية كل أقصوصة، تجد نفسك متسائلاً : ” ماذا ؟؟ هل هذا كل شىء ؟ ألا يزال هناك أشياءًا لا تُروى ؟  والواقع أنك تدخل فى مغامرة افتراضية مع خيال الكاتب وبقايا ذكراه التى لم يطلق سراحها بعد، تاركاً  للقارىء مساحة من التماس أو التحليل أو حتى التقاط الغاية من السرد.

لغة السرد هنا تستند إلى دور الراوى الذى يدير دفة الحوار وحده دون شريك ظاهر، لكنه فى واقع الأمر يخلق قواسماً أخرى، يتوقف عندها كل من وجد نفسه على حافة التماس مع بوحه السلس.. تساؤلات عدة تطلقها الكلمات المقتضبة ذات الدلالات البعيدة.. تُرى، هل تسترق الأيام مذاق الماضي وتُحيله إلى لقطات باردة خاوية من الأثر؟ هل تتبعثر حزمة اقتراناتنا الشرطية المرهونة بالمكان والزمان وما يحملانه من أصداء للذكرى؟ كيف تصبح الأمكنة العاجزة عن حماية تفاصيلها أكثر وفاءًا من البشر ذوي الحنين المتآكل والتناسي الشره؟  أتحتفظ نظرتنا الأولى للأشياء والأشخاص بعذريتها أم يتبدل ثوبها تماشياً مع جحود الأيام؟ أيظل الحنين كافياً لخلق البهجة ذاتها فى كنف الغياب والتفاصيل الباهتة؟

تدفقات من الأسئلة ترتسم مع الكلمة الأخيرة فى كل أقصوصة تضمنتها المجموعة.. لذلك انتقى “العوضى” عنواناً جامعاً مانعاً، يحوي بين أحرفه الكثير من الشفرات والحلول فى نفس الوقت. لم يكن البحر الذى رآه فى بلدتهم الصغيرة بمحافظة الدقهلية، واعتبره بحراً رحباً بمنطق الطفل، وليس فرعاً يتيماً للنهر، سوى أيقونة لم تفقد قدسيتها ولم تهتز مكانتها فى وجدان الطفل الصغير الذي حملته الدنيا على جناحيها وقطعت به مئات الأميال المكانية والروحية..

استخدم الكاتب الفعل الماضي “كنت”، ليس لنفي واقع إيمانه بكون ما رآه فى الماضى  بحراً رحباً كما كان يظن، ولكن كى ينفي ديمومة المكوث فى قصور الطفولة النقية التى تدفعنا لرؤية ما نحب فقط .. ومع ذلك يختتم “العوضي” سرده الشيق بلقطة شرود طويل وهو يطالع النهر من شرفة منزل عائلته ويدقق النظر إلى ذاك النهر الذى آبى أن تتهشم ذكراه البكر على ضفافه بفعل تغير كافة الكواليس المكانية والزمنية والإنسانية من حولنا، فقد ظل انتماءه للجذور يروى تلك الشجرة العملاقة الغارقة فى أحضان ذلك النهر، والتى بدت له الأكثر وفاءً وحرصاً على إرث الماضي والذكرى.

مقالات من نفس القسم