فَيْ مَتَاهَةِ المكْتَبَةِ العَرَبِيَةِ، سألتقي فقهاءَ كَتَبُوا في اللِّذَةِ والشَّهَوَاتِ، لَكِنَّ تلكَ المخطوطاتِ أصَابَهَا التَّلفُ والنِّسْيَانُ والإقصَاءُ، في عِفةٍ كاذبةٍ اخترعَهَا فقهاءُ الظَّلامِ الجُدَدِ، فَحَرَمُوْنَاْ منْ كُنُوزٍِ لاتحصى، وَهَا نَحْنُ نَنْفِضُ الغُبَارَ عنْ صَفَحَاتٍ مكتوبةٍ بِمَاءِ الذَّهَبِ، وفي المُقابِلِ تَتَمَلَّكُنَاْ شَهوةٌ مُضَادةٌ في التَّمَرُّدِ على شرعيةِ الآباءِ، ذلك أَنَّنَا وَجَدْنَا أنفسنَاْ في العَرَاءِ، أمامَ لحظةٍ زئبقيةٍ سَائِلةٍ، وأُخْرَى مَعْدنيةٍ صُلبةٍ تحتاجُ إلى مَطَارِقَ أُخْرَى لِصَقْلِهَاْ ومحاكَمَتِهَاْ والاشتباكِ مَعَهَاْ بالسِّلاحِ الأَبْيَضِ، وإذَاْ بالسَّرْدِ يَدْخُلُ حفرياتٍ مختلفةً، ويَصْطدِمُ بمعادنَ غَيرِ مُكْتَشِفَةٍ، تَكْمِنُ في الظِّلِّ والهَامِشِ والشِّوَارع الخَلْفِيَّةِ. لعلَّ مُعْضِلَة َالرِّوَائيِّ الجديد تَنْطَوِيْ عَلَى مُفَارَقَةٍ كُبْرَى، تَتَعَلَّقُ بِالرَّاوِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مُحَاصَرٌ منَ الجِهَاتِ الأربعِ، وَلَيْسَ أمَامَهُ غَيْرُ أَنْ يُحْرِقَ السُّفُنَ، ويَتَوغَّلَ في الأرضِ المَجْهُولةِ، دُوْنَ أَسْلِحَةٍ. راوٍ يَقِفُ فِيْ العَرَاءِ في حَالةِ إخْصَاءٍ كاملٍ، لَكِنَّ كتابةَ الخَصَاءِ نَفْسَهَا هِيَ مَوْقِفٌ نَقْدِيٌّ وسوسيولوجيٌّ مِمَّا يُوَاجِهُهُ الرَّاويّ منْ فِخَاخٍ .كتابة الخصاء هي أيضاً محاولةةُ لإنشاءِ مدوّنةٍ سرديةٍ تَفْضَحُ هَذِهِ الهشَاشَةَ، وحَجْمَ الوَحْلِ الّذي يَغُوْصُ فِيْهِ «اللا ـ بَطلُ» لتأريخِ فَوَاتِيرِهِ الخاسرة وتَوْثِيْقِهَا ، مُتَجَاهِلاً مَآثِرَ الأجْدَادِ في الرِّمَايةِ وإغَاثِةِ المَلْهُوْفِ، والسِّبَاحَةِ، وَرُكُوْبِ الخَيْلِ. من ضفةٍ أُخرى، وفي ظلِّ لحظةٍ عولميةٍ مُتَوَحِشةٍ، يَجِدُ روائيٌّ اليومَ نَفَسَهُ، أَسيرَ مُقْترحاتٍ سَرْدِيةٍ وبَصَريةٍ ضَاغِطةٍ أَصَابَتْهُ بالعَمَى بسببِ قُوَّةِ الإبِهَارِ التَّقَنِيِّ؛ فَكانَ أنْ كتبَ نَصَّاً هَجِيْنَاً ومُتَشَظياً، هُوَ مَزِيْجٌ من خِبْرَاتٍ بِيئيةٍ أُوْلى، ومَرْجَعِياتٍ وَافَدةٍ مَدْمُوْغَةٍ بِبريقِ المَرْكَزِ، وَالنَّيُوْنُ الإعلانيُّ لِحَداثَةٍ شفويّةٍ تَفْتَقُِد التَّأصيلَ، كَمُحَصِلةٍ لمشيةٍ عرجاءَ في مَتَاهةِ السَّرْدِ. منْ جِهَتِي سَعَيْتُ إلى استعَادةِ ضَميرِ المُتكلِّمِ المَوْءُوْدِ، في اختباراتٍ أوليّةٍ لإعْلاءِ شَأنِ الذَّاتِ المقْمُوعَةِ، واقتفاءِ أَثرِ الوَشْمِ في المدوَّنةِ التُّراثيّةِ عَبْرَ تَنَاصٍّ تَجْريبِيٍّ مرتجلٍ إلى حدودِ الانْخَطَافِ. كُنْتُ كَمَنْ يَتَجَوّلُ بِسروالِ الجِينز في سُوْقِ الوَرَّاقِين، ويُلقي التَّحِيّةَ بِتَبْجِيلِ خاصٍّ إلى الجَاحِظِ، وأبي حَيَّان التَّوحيديِّ، وابنِ خَلدون، وآخرين.
أَسْتَحْضِرُ الآنَ صُوْرَةَ ذَلكَ الفَتَى الذي كُنْتُهُ في قريةٍ عِنْدَ حُدُودِ الصَّحْرَاء، في بيتٍ طينيٍّ يفتقدُ الكُتُبَ، عَدَا نسخةٍ قديمةٍ مِنَ القُرآنِ . ذاتَ يومٍ صيفيٍّ قائظٍ، انتبهْتُ إلى كتابٍ مُهْتَرِئٍ قُرَبَ مَوْقِدِ النَّارِ، ربَّمَا أحْضَرَتْهُ أمي لاستعْمَالـِهِ في إِشْعَالِ الحَطَبِ. كانَ الكتابُ دُوْنَ غِلَافٍ، فَقَرَأْتُ عُنْوَانَهُ في الصَّفْحَةِ الأُوْلى «عبث الأقدار» لمؤلِّفٍ مَجْهُوْلٍ بالنِّسْبةِ لي، هُوَ نجيب محفوظ. لا أتذكَّرُ اليومَ مُحْتَوياتِ هَذِهِِِ الرِّوايةِ، ولكنْ ربَّما كَانَ نجيب محفوظ نَفْسُهُ، هُوَ مَنْ قَادَنِي إلى التَّهْلُكَةْ. لعل جائزة نجيب محفوظ للرواية ستضعني مجددأً أمام مرمى مكشوف، أنا الحارس الأعزل بكامل رعبه!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* روائي سوري فاز بجائزة نجيب محفوظ لعام 2009