كلمات يونس الأخيرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

- يبدو أنهم صدقوا بالفعل أنك لا تعلم شيئًا حول الأمر.

-        ........... .

-        إنها الأوامر بإطلاق سراحك.. ألا يسرُّك ذلك؟

  لم يجب يوحنا بشيء.. كان هذا أول وجه آدمي يراه بعد مرور.. بعد مرور.. لا يذكر، أو بمعنى أدق لا يعرف. ها هو في غرفة فارغة تمامًا سوى من منضدة وورقة وقلم موضوعين عليها. الغرفة لا تحوي أية نوافذ؛ فقط باب موصد بإحكام، ويمر الوقت دون أن تعرف ما إن كنت في الصباح أم في المساء، وبين الحين والآخر يُفتح الباب فجأة لتدخل صينية من الطعام، وفي كل مرة تجد الأمر مختلفًا تمامًا... تارة طعام لا تستطيع تناوله من سوئه... قطعة خبز متحجرة وسائل أصفر لا تعلم كنهه، ومرة أخرى تجد قطعة لا بأس بها من اللحم مع أرز وخضار يمكن التعرف على ملامحه، وفي كل الحالات أنت لا تعرف السبب حتى عندما امتنعوا عن تقديم الطعام مدة طويلة حتى بدأت الهلاوس.... تنظر إلى الورقة والقلم فهما الشيئان الوحيدان في الغرفة ولا تعلم ما يجب عليك أن تفعله. بالطبع يودُّون منك الاعتراف، ولكنك لا تدري بم تعترف.. ترى كيف يكون الأمر إن كان ليس له علاقة بحازم وضباط الشرطة؟ ظللت تصرخ ساعات طويلة عدة مرات تسأل عن سبب اعتقالك لتحاول أن تستنبط حتى عما يكون الأمر بلا فائدة. بالطبع هم يراقبونك حتى بينما تتبول لمرات معدودة في طرف الغرفة الفارغة، بينما الورق والقلم موضوعان في مكانهما كما هما.

    كيف تقضي الوقت؟ وهل ينقضي أصلًا؟ إنك حتى غير قادر على معرفة مروره. ليس ثمة ساعة ولا أية أداة لحساب الوقت.. حسنًا.. ها هي الفكرة.

   نهض يوحنا من جلسته فجأة يركض صوب الورقة متعثرًا قبل أن يسقط ويظلم كل شيء بعد أن ارتطمت رأسه بالمنضدة. عندما حاول فتح عينه رأى نفسه راقدًا على الأرض، وكان يرى نفسه من منظر فوقيٍّ وكأنه محلقٌ في سقف الغرفة.. لينتهي المشهد. إظلام.. ها هي الصورة من جديد. ذبابة تحوِّم حول أنفك، تثقب جلدك ثقبًا دقيقًا لترتوي.. وتكبر.. تكبر.. تكبر حتى تحملك من رقدتك وتلقي بك صوب الجدار.

 يفيق يوحنا مرة أخرى على تأوُّه. يبدو أنه حقيقيٌّ. أو ربَّما مزيَّف. لا يعلم. فقط الحائط مقابله وخطَّان من الدم أمامه. يمدُّ يده ببطءٍ شديد على جبهته فيشعر بالدم يسيل بغزارة، فينظر إلى الورقة بلهفة ولا يرى شيئًا على المنضدة. يقاوم هزاله الشديد، وبينما الصورة آخذة في الاهتزاز ينظر يمنة ويسارًا حتى يجدها... نعم... لقد وجدها! يمسك بها كمن حصل على كنز العمر... يمسك بيده القلم ليخط أول خط.

******

   بيدين مرتعشتين خط تلك الخطوط الأولى...

  ستين مجموعة من الخطوط تحوى كل مجموعة منها ستين خطًّا رفيعًا. قال لنفسه إن كل خط يمثل ثانية وكل مجموعة تمثل دقيقة، وعند إنهاء كل مجموعة تكون ساعة قد مرت... هكذا سيقضي الوقت المنصرم قبل الجنون!

 مرَّت ساعة كاملة بينما هو يحصي الخطوط، وفتح الباب، ولكنه لم يتوقف خشية أن يضيع منه الوقت.. ما زال محافظًا على إيقاع الثانية بقدر المستطاع. كانت بطنه تئنُّ من الوجع، بينما قد أرسل إليه طبقًا تلك المرة يحوي طعامًا يبدو عليه أنه جيد. في أقل من جزء من ثانية كان قد نظر إليه وعاد إلى ورقته يحصي ثوانيه ودقائقه... يودُّ لو يقبض على الزمن بينما يقترب حفيف الجنون كشبحٍ تخيم أرجاؤه على المكان.

   عند مرور الساعة الثانية كانت الخطوط قد بدأت تتراقص أمام عينه والمعدة تصرخ، وشعر بالمفاجأة عندما فُتح الباب مرة أخرى ودخل طبق آخر من الطعام. اشتمَّ رائحة لم يشتمَّها منذ ذلك الوقت الذي دخل فيه إلى ذلك المكان.. رائحة طعام طازج حقيقي، وبينما نظر إليه في ذلك وعاد إلى ورقته وجد أن يديه قد تاهت عن الخط. توقف للحظة ونظر إلى الحساب الأخير فلم يعرف إلام وصل.. بدا وكأنه كان يعيد ما بدأه دون أن يدري. أصابه إحباط قاتل وبينما هو يفكر دخل أحدهم أخيرًا وأخبره مباشرة:

-        يبدو أنهم صدقوا بالفعل أنك لا تعلم شيئًا حول الأمر.

-        ............... .

-        إنها الأوامر بإطلاق سراحك... ألا يجعلك ذلك مسرورًا؟

  لم يفهم شيئًا، فاقترب منه الرجل وأمسك بذراعه بحنو بالغ واقتاده ببطء خارج الغرفة. شعر أنه سيسقط إن تركه الرجل لحظة واحدة. سار محدقًا بتعجب في المكان. كانت الصورة واضحة لدرجة الغموض. ما إن خرج من المبنى حتى أشاح بعينه بعيدًا عن السماء فقد غمره ضوء الشمس ولم يكن قد رآه لمدة لا يعلم مقدارها. أركبه الرجل سيارة فخمة مخبرًا إياه أنها ستصحبه حتى المنزل. حاول استجماع شتات أفكاره في يأس شديد فربما كان يحلم. وشعر أن الخطوط ما زالت أمام عينه تتراقص، وربما ما زال في الغرفة يحدق فيها ويرى كل ذلك من خلالها. استسلم لخيالاته وركب السيارة. فنظر إليه السائق قبل أن يبدأ التحرك:

-        لقد أرادوا منك معلومة واحدة فقط.

لم يفهم شيئًا ولم يجب.

-        ما علاقتك بالاعتداء على الأنبا ديمتريوس؟

-        لا أفهم شيئًا.

-        حسنًا... هذا لا يهم.

   ثم انطلق بالسيارة ويونس يحدق في بلاهة صوب الباب غير مصدق أنه يخرج أخيرًا، وفتح الحارس الباب الضخم وتوجهت السيارة صوبه ومرت العجلتان الأماميتان من العتبة، ثم توقفت فجأة ونظر السائق مرة أخرى إلى الخلف:

-        ألا تعلم حقًّا؟ لماذا أشعر أنك كاذب؟

 حدق يوحنا ببلاهة في وجهه ولم يتحمل الأمر... عاد إلى خطوطه أو عادت خطوطه إليه، وشعر أن كل شيء يتحرك ليبتلعه كاملا.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تصدر قريبًا عن روافد للنشر ـ القاهرة

 

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال