البيتُ،
الذي كان من غُرفةٍ واحدةٍ،
ومن عَشَراتِ الأفواه،
يدخلُهُ الجميعُ،
لكن البّعضَ فقط
هو الذي كان يخرج،
بالأمسِ ماتت “الجارية”،
التي سبّت كل معارفها
قبل أن تموت،
كأنها تُسلِّم بالسُباب،
وفقَدَتْ كل حفيداتها ـ تقريباً ـ
في قطارٍ واحدٍ،
المرأة التي تجَعّد في وجهِها
ثمانين عاماً،
كأنَّ الموتَ يرسمُ لوحَتَه الأخيرةَ في ملامِحِها،
وشَمَت الشقاء تحت ذقنِها
كأنّها تبصُقُ عليه،
المرأةُ التي غَسّلت الموتى
أكثر مما اغتسلتْ ،
و أسْمَت أبناءها:
“ناصر
ونصر
وانتصار”
لم تُرسِل واحداً منهم إلى الحرب،
وحينما ذبحَ القطارُ انتصارَها الأخير،
صارت تُناديه بين المحطّات
كأنّه نوعٌ من الحلوى،
بالأمسِ ماتَتْ “الجّارية”،
في السريرِ الذي بلا أعمِدة،
النائم هناك على الأرضِ،
في شارعٍ ضّيقٍ جداً،
يفتحُ فمَه في محطّة القطار،
كأنّه يتقيّأ المُسافرين
جنازة
سبعةُ رجالٍ بحناجر مقطوعة،
كانوا في ” الباص”،
وكانوا أصدقائي
حين أصبحَ الحديدُ خنجراً بين شاحِنَتيْن،
سبعة رجالٍ تركوا أفواهَهَم مفتوحةَ،
كأنّهم يعقِّبون على موتهم بصرخة ،
وكأنّ موتَهم لا يُريد أن يسمع،
…………
تركوا حناجرَهم على الأرضِ وانصرفوا،
وحين خرجتْ الجثامين إلى المقابر،
خرجوا جالسين،
بعضهم يقشّر” الدُّيون” عن جبهِتِه،
وبعضهم يهشّ الذنوبَ عن الكفن،
سبعةُ رجالٍ،
تركوا حناجرِهم في حِجْري،
أنا الذي لا يستطيع ـ حتّي ـ
أن يؤازِرَهم بدمعة
بعدهم،
لم يعُد لي أصدقاء،
صرتُ أمزِّقهم كالأوراق،
وأطلقُهم في الرِّيح،
قبل أن أتورَّط معهم
في المزيد من الديون.
عَمَـل
هكذا عاشوا
وهكذا يموتون،
في الجلاليب الزرقاءِ نفسِها،
والأحذيةِ نفسها،
وربما بالعَرقِ نفسِه،
العَرقُ
الذي يصرخُ بمفردِه
في كل هذه الجنازاتِ:
“وحِّدووووه”
لكي يودّعهم،
يفتحون موتَهم بصرخة ،
تأتيكَ غالباً بعد مُنتصفِ الليل،
فتخطو إلى بيتِ الواحدِ منهم
كأنّك تمشي في قلبك،
لتحملَ من فوق الأرضِ
رجلاً في الستين،
سالَ لعّابه بجانبِه،
لكنَّه لم ينسَ أبداً
أن يرتدي الجلبابَ والحذاءَ،
كأنّه ذاهبٌ إلى العَمَل.
استقالة
روحي ثقيلةٌ،
كأنَّها ذهبتْ إلى الحربِ بمفردِها،
و لا تستطيعُ
حتّى ،
أن تعود،
عيناي ذاهِلتانِ،
كأنّهما انفصَلَتا عنِّي
وهاجَرَتا إلى بلدٍ بعيد،
أمِّي مسكينةُ تعشقُ العمل،
تطعِمُ الدجاجَ قبل المغرب،
و تنظِّفُ الأيامَ
من شقائنا،
قبلَ أن تذهبَ إلى السوقِ
في الصّباح،
أنا أيضاً في الصباحِ
أقفُ في هذه الشُّرفة،
والشقاء واقفٌ بجانبي
تماماً،
كأنّه لا يجدُ عملاً سواي،
أيامي طويلة،
لدرجةِ أنّني حين أطلّ على الشارع
لا أجدُ شيئا،
الكلابُ تبولُ تحتَ البيت،
والعابرون قليلون من دونِ سبب،
إخوتي ذهبوا إلى أعمالهم،
وأنا،
أدخِّن النّفَسَ الأخير،
كأنّني أكتبُ استقالةً
بزفيري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مختارات لم تنشر من ديوان”كل ما صنع الحداد” يصدر قريباً عن دار صفصافة
خاص الكتابة