كل الأمور أصلاً طيبة ..

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كنت أقف تائهة في ميدان العتبة بعد أن أتمت الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم الذي قرر فيه -فجأة- شخص ما أنه سيتركني إلى الأبد، تحدَّث عن أسبابه في الرحيل والتي لا أذكر منها شيء الآن، ربما لأن ضجيج شوارع وسط البلد كان أعلى من كلماته الخافتة التي تلفظ بها على استحياء وبأقل درجة صوت ممكنة فم أنتبه لمبرراته جيدًا. "بالتأكيد لم يتعمّد كل هذا". كنت أواسي نفسي.. نحن نعيش في مدينة تُساعدنا تمامًا على تجاوز كل الأمور، المحبة والفراق، الدفء والغربة، الشكوى والحنين، وكل الخذلان الممكن تجاوزه، فبمجرد التحامنا بالآخرين في الشوارع المزدحمة وعبورنا للطرق الواسعة ينتهي تقريبًا كل شيء. هناك دائمًا اتجاه موازي لاتجاهنا، نعبر له بدون قصد فنجد فجأة أن كل شيء ممكن ومباح على الجهة الأخرى، وأن كل الحطام الذي نحمله في جيوبنا لا يجعلنا نتعثّر في السير، بل تسحقه العربات من خلفنا ولا تترك له المجال لعرقلتنا من جديد. في وسط البلد، كل الأمور تسير بتدبير كوني خفي.

 

عبرت الجهة الأخرى من الطريق، وصلت بدون خسائر، “سأستقل تاكسي” قررت سريعًا.. أوقفت أول عربة وقفت أمامي “ماذا أقول له؟” استجمعت كل جرأتي وفتحت باب التاكسي الخلفي وركبت بدون إتفاق مُسبق، نظر لي السائق في المرآة الأمامية فلمح اضطرابًا على وجهي ورغبة حبيسة في البكاء، ابتسم بهدوء وقال “أعرف أنكِ لا تقصدين مكان محدد، لكن لا تقلقي، سأعبر بكِ الطريق“.. كانت ملامحه طيّبة والعداد بجواره يعمل، لا داع للقلق. ركنت رأسي على زجاج السيارة وأنا ممتلئة بالرضا تجاه هذا الغريب الذي لم يُثقلني بالكثير من الأسئلة والحكايا.. قطعنا دائرة الميدان، وطريق أخر قصير إلى أن وصلنا  إلى”نفق الأزهر” دخلنا النفق الذي لم أدخله من قبل.

طريق اسطواني طويل لا ينتهي، الإنارة على جانبيه تُشبه كل الإشارات التي تُضيء في قلبي طيلة الوقت بلا توقف، طريق سريع وملتوي في بعض المواضع مثل كل قراراتي الخاطئة، هادئ وحميم كرحم أمي التي لا تتوقف عن التسبيح، آمان رغم السرعة التي تجاوزها مؤشر التاكسي “110”. ضممت حقيبة يدي إلى صدري وفردت ذراعي اليمني خارج زجاج السيارة، تركتها تصطدم بنسمات الهواء الباردة التي ختم بها شهر أغسطس قسوته.

– هل ينتهي بنا الطريق؟

– الطريق الذي نسلكه لا ينتهي أبدًا.

–  وماذا يوجد على الجهة الأخرى؟

–  كل الخوف والأشباح التي نخشى مواجهتها، لكنهم في الحقيقة أمور طيّبة.

–  وهل الخوف أمر طيّب؟!

–  يا عزيزتي،كل الأمور أصلاً طيّبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 من مجموعة “أبيض وأسود” الفائزة بالمركز الثاني في مسابقة أخبار الأدب 2016

مقالات من نفس القسم