كسر المستحيل السينمائي في فيلم “حياة باي”

كسر المستحيل السينمائي في فيلم "حياة باي"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
إبراهيم الملا عاد اسم المخرج الأميركي والصيني المولد (آنج لي) مجدداً إلى الساحة السينمائية العالمية ليطرق وبقوة أبواب التحدي وكسب الرهان التقني وليبرهن في كل فيلم جديد يقدمه عن مدى الرشاقة والتنوع في الأساليب الإخراجية التي يتبعها بعض النظر عن المواضيع المطروحة في أفلامه، وعن عنف تصادمها مع التابوهات الاجتماعية وتشابك الخيالات المركبة فيها استنادا إلى ما قدمه في أفلام مثيرة للأسئلة ومتوفرة على حساسية خاصة في دمج المسارات المستقلة للقصة أو النسق الروائي بما يلائمها من اقتراحات فنية وجمالية باذخة ومنتمية لشعرية المشهد والحالة معا.

ففي أحدث أفلامه ( حياة باي) والمقتبس بذات العنوان من رواية الكندي يان مارتل أثبت آنج لي أنه قادر على المضي في المغامرة السينمائية إلى تخومها البعيدة والمستعصية على مخرجين آخرين مخضرمين انسحبوا مبكرا من مشروع الفيلم المتضمن مناخات بصرية شديدة التعقيد، رغم أن الرواية ذاتها استطاعت اختراق الحياة الثقافية في سنة 2001 وتوجتها بجائزة البوكر في العام التالي، وحازت شهرة عالمية غير مسبوقة بعد ترجمتها إلى لغات عالمية عدة وانتشارها الشعبي الواسع والمغري لكثير من المخرجين السينمائيين من أجل نقل تفاصيلها المدهشة ومحتواها الروحاني الأثير إلى الشاشة الكبيرة.

 

حلم مؤجل

ظل حلم تحويل الرواية إلى فيلم معلقاً ومؤجلاً لسنوات طويلة، وكان الإشكال التقني هو الحاجز الأكبر هنا في عدم استمرار المشروع، وانحسار الحماس المتقد في الترويج للرواية بصرياً وعرضه على شريحة هائلة من عشاق السينما في أنحاء العالم.

إلا أن هوس آنج لي بكسر هذا المستحيل السينمائي جعله يتصدى للمشروع خصوصاً مع تنامي الاهتمام بتقنية (الأبعاد الثلاثية)، ووصولها إلى مستويات مبهرة انتصرت على استحالة الوصول إلى البعد الثالث في المشهد السينمائي، وهو الأمر الذي تجلى بشكل قوي في فيلم (آفاتار) للمخرج جيمس كاميرون صاحب الفيلم الاستثنائي (تيتانيك)، وكان تحدي استحضار الشكل الواقعي للحيوانات وخصوصاً للنمر البنغالي الذي يتسيد معظم مشاهد الرواية مع الصبي الهندي باتيل أو (باي) كان هو الآخر يمثل عقبة كبيرة أمام آنج لي، فكاميرون في فيلم (آفاتار) استطاع أن يناور وأن ينجح في تخطي هذه العقبة من خلال التعامل مع كائنات خيالية يمكن لتقنيات الغرافيك المتطورة أن تجسدها وتستحضرها من عالمها الافتراضي المتأرجح بين ضفتي الوهم والحقيقة، وعلى العكس من ذلك تماماً تتمسك رواية (حياة باي) بواقعية الحضور الفيزيائي للحيوانات لأنها تمثل عصب ورهان وخصوصية الرواية برمتها، وهو الأمر الذي دفع آنج لي للعمل ولمدة ثلاث سنوات متواصلة على الجانب التقني وحده من أجل الوصول إلى حل مثالي ونهائي لصيغة (المحاكاة) التي فرضتها الرواية ومن دون اللجوء لحلول مشهدية بديلة أو موازية.

آنج لي نفسه صرّح بأن فيلم (حياة باي) يعد من أكثر أفلامه صعوبة من ناحية الإخراج على الإطلاق، بسبب الكم الهائل من اللقطات والمشاهد والحيل المبتكرة التي تضمنها الشريط الأساسي للفيلم، والذي استهلك زمناً طويلًا ومنهكاً من البحث وتطوير برامج الغرافيك والقطع والمونتاج وسينوغرافيا البحر، حيث إن معظم مشاهد الرواية تدور في المحيط الباسيفيكي المشرع على زرقة لانهائية، والمفتوح على مجابهات خطرة بين الصبي والنمر، وبين الاثنين وما يعتمل في هذا المحيط من تقلبات شرسة لا تخلو أيضاً من وقفات وتأملات شعرية مسكونة بانتشاءات صوفية وعرفانية متصاعدة مثل أمواج أليفة وراقصة وسط كرنفال الماء واحتفال النور في النقطة التي تقطع خط الظلمة وتشتبك مع ضياء لانهائي.

 

خيط رفيع

وسبق لآنج لي تقديم العديد من الأفلام المستقلة بمناخاتها والتي لا تنتهج أسلوبا أو نسقا متشابها في طرح مواضيعها ومروياتها، بحيث يمثل كل فيلم حالة متفردة في سياق تجربته السينمائية المقرونة بإحباطات المرحلة الأولى عندما أجبره الظرف السياسي والرقابي في الصين إبان حقبة الستينات وما بعدها إلى الانتقال إلى الولايات المتحدة للبحث عن فرص جديدة للتعبير عن موهبته السينمائية وعن المخزون المسرحي والأدبي الوافر الذي استقاه أثناء التحاقه بأكاديمية الفنون بتايوان في السبعينات من القرن الماضي، واستطاع لي (المولود في عام 1954) أن يكمل دراسته للمسرح والسينما في جامعة إلينوي الأميركية، وتمكن من خلال فيلمه الروائي القصير الأول (خيط رفيع) أن يفصح عن موهبة خاصة في المزج بين الأداء القوي للممثل على خشبة المسرح وبين الطرح البصري المتنوع الأبعاد في السينما، وبعد تخرجه من جامعة إلينوي في العام 1984 أمضى ست سنوات محبطة ومليئة بالانتكاسات الفنية والمهنية لأن مشاريعه لم تجد قبولا من الاستوديوهات الكبرى في هوليوود، ما اضطره للعودة إلى بلده الأصلي تايوان والعمل على ثلاث مشاريع سينمائية دفعة واحدة، وتمثلت هذه المشاريع في فيلمه الروائي الطويل الأول بعنوان (دفع الأيادي) في العام 1992 وأتبعه مباشرة بفيلم (حفل الزفاف) في العام 1993، وحمل الفيلم الذي قدمه في العام التالي مباشرة عنوانا غريبا هو ( كُل، اشرب، رجل، امرأة)، وناقش لي في الفيلم الأول وبنسق كوميدي داكن نتائج الصراع وسوء الفهم بين الأجيال المختلفة في الصين، وأثر ذلك على النسيج الاجتماعي الممزق بين التصورات البدهية لدى الكهول وبين رغبة التغيير واستشراف الحداثة لدى الشباب.

وبعد الإشادات النقدية المهمة التي حظيت بها أعماله هذه وخصوصا فيلميه الثاني والثالث لتضمنها أبعادا إنسانية شفافة تحوم في فضاءات التوق والألم والخلاص الفردي، رشح آنج لي لتحويل رواية جون أوستن الشهيرة (العقل والعاطفة) إلى الشاشة، وبمشاركة نجوم عالميين معروفين أمثال: إيما تومسون وكيت وينسليت وهيو غرانت ورغم محيط العمل الجديد والخصوصية الإنجليزية العريقة للرواية، إلا أن (آنج لي) استطاع أن ينقل وبحرفية عالية أجواء العصر الجورجي الذي سبق العصر الفيكتوري في بريطانيا، ومثل الفيلم نقلة مهمة في مهنته السينمائية وفتح أمامه أبواباً ومنافذ وفرصاً غير متوقعة، وأثبتت أفلامه التي نفذها في بلده الأم تايوان أن حسابات المنتجين في هوليوود كانت خاطئة تماما فيما يتعلق بقدراته الإخراجية وابتكاراته الخلاقة في تعزيز الجانب البصري للسيناريو، ونقل الأصداء والخبايا والنفسية للشخوص من خلال معالجات مشهدية رهيفة ومتداخلة من القيمة الأدبية والمسارات السيكولوجية في النص الأصلي.

هوليوود التي لم تعترف به وتنكّرت له في البدايات، دعته إلى فردوسها السينمائي بعد أن ذاع صيته عالمياً كي يخرج فيلمه الصادم (جبل بروكباك) الذي يحكي قصة العلاقة الحميمة التي تجمع بين شابين من رعاة البقر في السهوب الأميركية قام بدورهما الممثل (جيك جلينهال) والممثل الشاب الراحل (ليث هيدجر) وضمن الفيلم لآنج لي الفوز بجائزة أفضل مخرج في حفل جوائز الأوسكار عام 2005 بعد أن كان فيلمه السابق (نمر رابض، تنين خفي) على موعد مع عدة ترشيحات للأوسكار نظرا لما تضمنه من مشاهد ولقطات مذهلة حول فنون الحرب في الصين القديمة، واعتبرت هذه المشاهد وقتها من الفتوحات الجديدة في السينما العالمية المعاصرة.

 

الإلهام والرصانة

رغم انحيازه للقصص الغريبة والمستقلة بأجوائها وتعاطيها مع دراما الوجود والصراعات الخفية والمحتدمة القابعة في اللاوعي البشري، إلا أن المغامرة السينمائية لدى آنج لي لم تعرف التوقف أمام نموذج سينمائي واحد، بل امتدت هذه المغامرة نحو الأفلام التجارية أيضاً والتي أضاف إليها لمسات فنية جديدة تمزج بين الإبهار والإثارة المشهدية، والقدرة على التسلل إلى البواطن الإنسانية التي تحرك نوازع الشر ودوافع الخير، وشاهدنا ذلك واضحا في فيلميه (العملاق) ــ Hulk Theــ الذي قدمه في العام 2003 وفيلم (العاصفة الثلجية) الذي قدمه في العام 1997.

لقد تحول الفصل العنيف بين سينما الشرق وسينما الغرب وعلى يد مخرج عبقري بحجم وقيمة آنج لي إلى خيط رفيع، كما هو عنوان أول أفلامه الروائية القصيرة، وهذا المزج المرهف ربما كان هو المناخ المثالي لتقريب وجهات النظر المتباينة في الأطروحات الفنية الإقصائية والاستعلائية نحو الثقافات المجهولة والبعيدة عن مراكز إنتاج الفن في العالم، يحسب لآنج لي قدرته الاستثنائية هنا في تذويب هذه الفوارق وزعزعة الفرضيات الثابتة، وكسر المستحيل السينمائي من جانبه الأكثر سماكة وصلابة، لقد نقل آنج لي سحر الشرق وجاذبيته الروحانية إلى الأسلوب المادي والعقلاني والربحي المهيمن على سينما الغرب، فخرج بتوليفة بصرية نادرة تجمع بين الإلهام والرصانة، وبين المعنى والمبني، وبين براءة الفنان والإمكانات التقنية الحديثة والمتصالحة مع دفق وحنو وإيقاع هذه البراءة النقية والأصيلة.

 

 

 

مقالات من نفس القسم