كذبة نبيلة تعبر الجسر

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد العشري

الوحدة ليست حالة، بل خيطٌ شفاف يحيط بالذين لم يجدوا صدرًا يُلقي عليهم برد الحياة. لن يفهم وحشة المناسبات إلا من ذاقها، ولن يعرف أحدٌ معنى الصداقة إلا من عرف ألم الوحدة وبهرجة البدايات الكاذبة. وحين تنفتح الأبواب، ستجد الحبّ، هو كذبة نبيلة، تخبرك أن العبور ممكن، أن الجسر لن ينكسر، وأنك –ولو للحظة– لست وحدك تماماً كالحلم: جميلٌ لكنه لا يبقى. لا تصدّقه. اجعله صديقك، وراقب إلى أين يأخذك، واجعل الموتَ حليفاً لك، حتى تهدأَ نبضاتُ قلبك كلما استشعرتَ ظلالَهُ، أو حتى همساتِهِ !!

 

والوعود؟ طلقاتٌ مؤجلة، نطلقها بيدٍ مرتعشة، لا لنُبقي أحدًا، بل لنؤجل لحظة السقوط. أن تقول “لن أبتعد” هو أن تضع قدميك فوق جسرٍ هش، تعرف أنه سينهار، لكنك تعبره رغم ذلك، ربما لأن الإنكار أحيانًا أرحم من الحقيقة. ليست المشكلة في الكلمة، بل في يقينك، وأنت تنطقها، بأنها كذبةٌ نبيلة، كذبةٌ لا تغيّر المصير، بل تمنحه استراحةً قصيرة قبل الانهيار. هكذا يبدأ الأرق، وهكذا يصير النوم معركةً ضد ذاكرةٍ محمّلة بالمهدئات. ليست الأحلام من تقتل، بل تلك الوعود التي تسقط فوقنا كالرصاص، بلا مجاز!

 

والكتابةُ؟ صفعةٌ باردةٌ على خدِّ الجوع، موسيقى تعرج، صورةٌ تنكسر في مرآةٍ معطوبة.

وأنتِ؟ تراقصين بخارَ الشِعر.

وأنا؟ أرتّب فيلماً مشوّهاً، شريطاً سينمائياً يُعلّقنا في هواءٍ معطّل، نجومٌ عمياءُ تُبعثر مقعدَنا الخالي، وظلّان يتعثران في عتمةٍ واحدة.

 

أحتاجكِ كما تحتاج العدسةُ إلى خطأ، كما يحتاج الصوتُ إلى جدارٍ ليتهشّم عليه.

ادخلي الطين، تعالي ندخل، ونصنع وطناً لا يُصلّي فيه أحد، ولا تلمسه يدُ الله. وطناً يشهق أمامه المذنبون، والذين تركوا قصائدَهم ترتعش على خشباتِ المسارح.

 

تعالي نخلق بلداً يتنفس غناءَ السكارى، وندخل مشهداً هجرته الملائكة.

لأسقطكِ من بين الجُمل، وتلوحي لي من قاع السطر… ك يدٍ تغرق في نزواتها.

وأيضاً كي لا أراكِ، اكتب.

كي ألوذَ بكلمةٍ خائفة خلف حجابِ اللغة.

لأفكّر، ثم أقول: اجعلها كتلةً واحدة، لا تنسَ النحّاتَ وهو يحفر جمجمتَه بسكينِ النبرة، لا تنسَ الآخرين وهم يشربون الحنينَ والضوءَ ثم الأحلامَ حتى آخر العطش.

لا تقل عبثاً: “أنا لا أكتب”، أو: “أنا أخلع جلدي وأتركه للظل”.

وأطلق كذبتك النبيلة، هي الأخرى لم تعبر الجسر… فهناك، قائدُ أوركسترا بلا يدين يشير إلى حيث كانت تضيء… ثم تخذلك.

ها انت ذا،

على ضفّة لا تُشبه الضفّة،

بين حطام الحلم، وجثّة الوعد،

تخبر نفسك؛

 

“أرتّق بالكتابة ما تبقى من جلدي،

وأضحك…

كأنني نجوت.

ها أنا…

أحدق في العدم، وأفكر:

ربما الجسر كان وهمًا،

وربما… لم تكن هناك ضفة أخرى”

 

ليأتي صوتها خلسة مرة أخرى وتسألك!

-والموسيقى؟ وحدها تتعثر في رأسي وتمضي.

 

 

الإسكندرية

٢٢/٣/٢٠٢٥

3:33am

…………………..

*كاتب ومخرج مصري

مقالات من نفس القسم

george doegham
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

رثاء أبي

يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

لا عزاء