كتابة على حواف الملح والسراب

جهاد الرنتيسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جهاد الرنتيسي

تفقدت قاع حقيبة الكتف لحظة وصولي منفيا من منفايَ الموروث الى غرفة مشتركة في أحد فنادق العبدلي، نحيت القصصَ المنشورة في صحف كويتية جانبا، قلّبت المخطوط الذي ظننته في ذلك الزمن فصولا لروايةِ ما اعتقدت بانه كارثة الفلسطينيين الأولى في الكويت، وعامَلته معاملة البضائع المهربة على نقاط الحدود التي مررت بها، خلال رحلتي من الفروانية الى عمان.

شدني أمان المدينة  للتعرف على ملامحها، حاولت في الأشهر اللاحقة الإصغاء لنبض عمان الخارجة من الزمن العرفي المعلن الى آخر غير معلن، العائمة على الصدى المعيشي لعقوبات اقتصادية انهكت البلاد والعباد، الميالة للهدوء، والقلقة دوما مما تخبئه الايام.

ظل الحاح الانتهاء من الرواية طاغيا رغم الانغماس في ماراثون رغيف الخبز، أتحايل عليه بحجة صعوبة الجمع بين ابداعين، ابرر تحايلي بقدومي الى الصحافة من بوابة الالتزام بقضايا عادلة، ليست “سرفيسا” للوصول الى النيابة والوزارة، اقول للاصدقاء، اطلعهم على ما كتبته في ظروف غير عادية، أطرب لاشاداتهم، ولم يخل الامر من تعليقات عابرة خلال ثرثرات المقاهي، يسألني مؤنس الرزاز عن المخطوط منفعلا بين الحين والاخر، يرى جمال ناجي ضرورة لإكماله، يشعرانني بالتقصير، أندهش لاستغراب خيري منصور من الكتابة عن “مكان لا تَحتمل الحياةَ فيه عوالم الروايات وتحولاتها”، أخمن عومه على هدير الشارع، واعلم فيما بعد انه كان يعبر عن قراءة خاطئة لعبارة وردت في احدى مقالات جبرا ابراهيم جبرا.

أتاحت الازقة والارصفة و شرفات المقاهي اكتشاف بعض اسرار المكان، مراوغة التنميطات التي تراكمت في الذهن خلال الغياب، نفض الغبش العالق بالصورة، وتأمل فضاءات عمان المفتوحة لعراقيين اتعبتهم الحروب وفلسطينيين عادوا بعد فقدان البوصلة.

أخذتني عوالمي الجديدة الى مطارح اخرى، صرت مع مرور الزمن اقل اهتماما بما بدأته خلال اشهر الوجود العراقي في الامارة، ولم يخل الأمر من انشداد لتأمل ما تركه ذلك المنفى الجماعي في الذاكرة. 

كنتم كالنائم في ظل جدار، فاجأني عبدالوهاب البياتي بتشبيهه ذات لقاء مسائي في غاليري الفينيق، يضم اطرافه حين تلامسها اشعة الشمس لكنه وجد نفسه مكشوفا بلا ظلال في لحظة ما، مضى في شروحاته واصغيت له حتى النهاية، قد يصح القولَ على الجيل الاول، حاولت تصويب الفكرة، اختلفَت الامور مع الاجيال اللاحقة، اكملت وفي ذهني لوم الابناء للاباء على اخذهم الى تلك البلاد، رأيت في تشبيهه حكمة تفتح هامشا للحديث عن التفاصيل، ولم اتوقف عند ما سمعه من تضييقات على معيشة التعساء في بلاد الرخاء المفترض، حين تتراكم أوهام تسوية قضيتهم في أذهان زعاماتهم.

رحل البياتي الى دمشق قبل ان احدثه عن مشاركَتَنا “البدون” هامشيتهم في روايات اسماعيل فهد اسماعيل، اوجه الشبه بين الغرف التي تنقلت بينها العائلة في “الفروانية” و”خيطان” وغرفة جبرا ابراهيم جبرا في بئره الاولى، قلة اختلاف الاحياء التي عرفَتها طفولتي وصباي عن مخيمات الرائي غسان كنفاني، واقتراب المشهد من سواد كوميديا اميل حبيبي.

 في خلفيات الصورة ما يستدعي الايغال وراء السراب، حيث التفاصيل الغائمة، فتحنا اعيننا على محاولات المخدوعين تعويض فقرهم ودونيتهم باحاديث عن بلاد فقدوها وبطولات علقت في ذاكرتهم، شكلت وعيا موازيا لدونيتنا، ساقنا الى هاوية الفصائل التي انتشرت كالفطر في مستنقع البترودولار.

اكتبوا تجاربكم كي لا تضيع، يحثني محمد الاسعد في اتصالاته بين الحين والآخر، اذكره بان جيلنا بلا بئر اولى، كيف نلملم اطراف الاخدود الذي وجدنا انفسنا فيه، اناكفه، يصر على ضرورة تعدد الروايات، ونمضي في الحديث عن الخيبات، والعلاقات المشوهة.

روايات جهاد الرنتيسي

قراءة متأنية للمخطوط الذي اعتقدت يوما بانه فصول رواية، لم اجد فيه غير يوميات ومشاهدات ساذجة لزمن الكويت العراقي، لا تنفد بأي حال من الاحوال الى عروق تجربة امتدت لنصف قرن او يزيد، ولا تكفي لرصد عمق التحولات.

نحيتها جانبا وفي ذهني خوض المغامرة، استعنت بما اتاحه زمن العولمة من قدرة على الاتصال، اتسعت الرؤية مع شهادات الذين عاشوا في ازمنة لا اعيها، ما جادت به ارشيفات الهندسة الاستعمارية من مراسلات، لم اهمل صورتنا في كتابات المستشرقين الذين جابوا البلاد، وضعت خطتي لرباعية الملح والسراب، ومضيت.

حرصت على رؤية المشهد بعيون اكثر من جيل وشريحة، للوصول الى انماط التفكير، تكوّن الاحاسيس، انفلاش العلاقات في ذلك الزمن، وجدت ضرورة لرصد محركات السياسة التي عبثت بمصائر البشر، وايجاد التكنيك الملائم لتشظيات الكائنات التي اتناول حكاياتها.

الحقيقة تلد أخرى، اجد في ما توصلت اليه مفاتيح فهم تاريخ سياسي ما زالت ابوابه موصدة، رغم اعتقادنا الساذج بمعرفة ماضينا، تسوقني ارتداداته الى فهم مختلف لعذابات الناس واوجاعهم، حيواتهم وخياراتهم.

صدرت “بقايا رغوة” عن دار البيروني في عمان لتقرأ المشهد بعيني غادة الاسمر وخيباتها، وجدَت قبولا لابأس به بين الاصدقاء رغم شكواهم مما اعتبروه صعوبة في الاسلوب المستخدم، بررته بتشظيات الفلسطيني وشتاته، ولجتُ بابا آخر من ابواب الخائبين في بلاد السراب مع تقصي تجربة المخدوع رشاد الناجي في رواية “خبايا الرماد” التي صدرت عن ذات الدار، اخرجت بعض التاريخ من تغييب دأبت عليه ماكنات الاعلام الرسمية في رواية “شامة سوداء اسفل العنق” الصادرة عن دار المرايا في القاهرة، فلم تكن دمشق وبيروت خارج دائرة المخدوعين، واعكف على الانتهاء من الجزء الرابع.

 ما زال في الذهن ما يستحق القول، وما زلت حذرا في التعامل مع فرضية تحديد هوية قُطرية للتجربة، هل هي كتابة فلسطينية، ارفض الفرضية بكل ما املك من ادوات الرفض، لرعبي من خطيئة التسلق على جراح وعذابات الفلسطينيين كما فعل سابقون بكل وقاحة وقلدهم لاحقون.

 كان لثمانينات القرن الماضي سجالاتها، يصر اسماعيل فهد اسماعيل على الهوية الكويتية للادب الذي يكتب في الكويت، بما في ذلك الذي يكتبه غير الكويتيين، وكانت نرجسية الهوية تدفعنا للاختلاف معه في بعض التفاصيل، لم نعترف بان تجربتنا لا تكتب دونهم، وان تاريخهم لا يكتمل بغير تجربتنا.

أطمح لكتابة ممتدة الى ما هو اوسع من الجغرافيا القطرية، تشتبك مع الزيف المتراكم، لبس الهوية، ومسار الخيبات، وارى ضرورة لرفع الاسقف التي أدمنا انخفاضها، كي لا نفوت فرصة لايقاظ الضمير.

………………………

  • شهادة ألقيت في مؤتمر الرواية الأردنية .

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم