لقد استفاد الشاعر من السريالية وانفلات المخيلة ونجح في توظيف الفانتازيا ؛ حيث أن القلق وحجم التمرد الداخلي على الواقع الخارجي قد يضطر الشاعر إلى مثل هذه التعبيرات التي تشبه الهلوسة ، فالجنون والهذيان وشطحات الصوفية والأحلام هي الينابيع الحقيقية لقصيدة النثر ، وهذه القصيدة لها دلالاتها التي تتصل بحالات القلق والفزع والعدم والانحسار والصمت، أما الصورة فتقوم على استخدام رموز العقل الباطن أو الشعور الداخلي المحض فإن قدرتها على الوصول إلى الآخرين تصبح رهينة الاشتراك في دلالة تلك الرموز بين المبدع والمتلقي. ولا شك أن بعض رموز اللاشعور رموز مشتركة والغموض جزء من بنية النص عند مؤمن سمير، يقول أدونيس :”الشعر نقيض الوضوح الذي يجعل من القصيدة سطحا بلا عمق .الشعر، كذلك نقيض الإبهام الذي يجعل من القصيدة كهفا مغلقا .”([ii])
التكثيف جزء مهم في بناء القصيدة عند مؤمن ، والغموض جزء من بنية النص والبنية الكلية للنص أشبه بحالة الحلم أو الكابوس. الشاعر لا يمنحنا الدهشة والمفارقة في نهاية القصيدة ولكن النص من أوله لنهايته لا يكف عن إدهاشنا.
والشاعر يعبر عن معاناته بدءا من عنوان الديوان ” بلا خبز ولا نبيذ”([iii]) الذي يتناص بشكل إشاري مع طقس التناول في العقيدة المسيحية “من يأكل جسدي ويشرب دمى يثبت في وأنا فيه” (يو 6: 56) فبتناولنا من هذا السر نصير أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه (أف 5: 30). كذلك نصير “شركاء الطبيعة الإلهية” (2 بط 1: 4). أما وقد حرم الشاعر من هذا الطقس فهو قد حرم من الحياة الأبدية “من يأكل جسدي ويشرب دمى، فله حياة أبدية وأنا أقيمة في اليوم الأخير”. كما قال “من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد” (يو 6: 54، 58). وحرم من الخلاص وكتب عليه العذاب الأبدي وحرم أيضا من الشفاء الروحي والجسدي…
يعد هذا العنوان مؤشرا على نكبة الذات وتعبيرا عن هزيمتها في عبارة اّتخذت منحى يتمّثل في علاقتها بالعالم الخارجي مما جعل عبارة (بلا خبزولا نبيذ) تحمل بعداً دلالياً عن أزمة الحياة التي لاتقدم لا الخبز ولا النبيذ ، لا الأحلام المادية ولا الخلاص الروحي .
تصدير الكتاب ((Epigraph)):
يعرف “جينيت” تصدير الكتاب/العمل كاقتباس يتموضع (ينقش)عامة على رأس الكتاب أوفى جزء منه.” فتصدير الكتاب اقتباس بجدارة بإمكانه أن يكون فكرة أو حكمة تتموضع في أعلى الكتاب، أو بأكثر دقة على رأس الكتاب أو الفصل ، ملخصا معناه فهو (ذو وظيفة تلخيصية ) ، ويعد التصدير كمقدمة للنص والكتاب عامة ذو قيمة تداولية ،واضعة لطريقة تسنن بها القراءة الواقعة فيقلب الحوار الناشئ بين النص والحكمة التي رجع إليها الكاتب .([iv])
“انظر يا رب وتطلع بمن فعلت هكذا ؟” مراثي إرميا20:2
والشاعر صدَّر الديوان بهذا النص التوراتي للدلالة على خراب العالم ، يرثي الشاعر عالمنا المعاصر ويعاتب الرب لأنه سمح بحدوث هذا ، كأن النبي في حنوه على شعبه يصرخ إلى الله مذكرًا إياه أن ما حلّ بهذا الشعب، إنما حل بشعبه (شعب الله نفسه).” أَيُقْتَلُ فِي مَقْدِسِ السَّيِّدِ الْكَاهِنُ وَالنَّبِيُّ؟ أسوأ ما نسمعه عن المجاعات أن تأكل الأم أطفالها ولكن العقوبة من جنس الخطية ألم يُقدموا أولادهم ضحايا حيَّة للإله مولوك، وكانوا يلقونهم في النيران أحياء. وكان ما حدث تحقيقًا لنبوة موسى النبي (تث53:28) وهذا ما حدث في حصار السامرة (2مل29:6). صورة للهلاك الجماعي. الصبيان والشيوخ مقتولين على الأرض، بل في داخل المقادس حيث التمسوا الحماية. بل حتى العذارى الذين في كل معركة كانوا يتركوهن. ولكن هذا قتل جماعي بأمر من الله. وكانوا كذبائح في يوم مَوْسِم من كثرتهم ، ففي المواسم تتضاعف الذبائح بكثرة . فالموت نتيجة الخطية شيء حذَّر منه الله أبينا آدم.
في الديوان يصف الشاعر الحياة الإنسانية المؤلمة ومن ثم يأتي الطفل رمز البراءة المهدرة ورمز لإصرار الشاعر على الحياة:الجسد في مقابلة الألم ؛ الألم الذي يصبح معه الجسد مجرد خرقة يسخر منها الشاعر سخرية مرة فهو مجرد جثة تصلح لأن يلعب بها الولد الكامن داخله ويصنع منها شبكة ملونة مع خوف الصباح المزمن ، وقد تصلح لأن ينيمها عاشقان على الأعشاب فلا تتسخ المشاعر ، وقد يستخدمها المخاطرون كمنطاد ينفخونه .إن الشاعر يواجه هذا كله تارة بالرغبة في الانتحار ومرة بالهروب داخل جسده الذي تحول لسجن له جدران وأبواب. هي تجربة الشاعر الملعون ، المتمرد على ألمه وخوفه ، الذي يصفه بلحظات الرعشة ، الشاعر يرتدى عباءة النبوة فهو المعذب المصلوب المحاصر داخل جسده فالأعصاب والجلد هما ما يحفظانه من الانهيار وهو يواجه كل هذا الألم في النهاية ويتخلى عن الخوف والارتعاش ويختار المقاومة ، تظهر هذه المعاني في أول قصيدة من قصائد الديوان “مراوغات” ،يقول الشاعر:
“الأعصابُ والجِلْدُ ، فقط ، هما أحزمةُ جسدي .. الأمرُ الذي لا يحتاجُ إلا إلى العبثِ الليِّنِ بأي آلةٍ حادةٍ عند المداخلِ ، لتنفكَّ ، وينفلتَ ويصيرَ طرياً تلوحُ للممرِّ خيوطهُ … مجردَ خرقةٍ يمسكها الولدُ الشقيُّ ويفردها مع خوفِ الصباحِ ويصنع شبكته الملونة ، أو يرتاح الطيِّبُ بألا ينسى أن يثقبها ، أو يُنيمها عاشقان على الأعشاب فلا تتسخ المشاعر … حتى أن يبرمها المخاطرونَ ثم ينفخونَ بكلِ حماسٍ ليُطِلَّ المنطادُ الذي سيكشف عن أذرعِ السماءِ ،الطويلةِ …..جسدي قابلٌ للطَيِّ في علبة ولتقطيع أجزاءَ بعينها كمناديل بعد القتلِ وللشنقِ على الحبالِ بعد أن يرقصَ الدمُ في عيني … وعندما يكشطونَ بشدة ، يمكن استخدامي للكتابةِ أو للشدِّ بين مهووسينَ قبل سقوطِ المنتحرِ الأخير ..” (الديوان ص7)
الشاعر ملعون مطرود من جنة الرب محروم من الخلاص الروحي لأنه محروم من طقس التناول يبتهل بلا جدوى ولا فائدة هذا بالإضافة لعدم وجود مستقبل فالعدم والخوف ينتصران دائما في النهاية وهذا هو مصير الإنسانية الحزين. يخاطب الشاعر الرب خطابا ميتافيزيقيا أشبه بالدعاء يطلب منه أن لا ينساه ويقدم وعوده وعهوده للرب بالعمل من أجله :
“أعبث وأترك الظلال عرايا/ حتى يتنزل ربنا من على صليبه/ ويجرب الرسم ثانية …./ربنا يا ربنا من أجل خاطر المشلوحين تحتك …الزارعين خدك الواسع ..كلما فاتت عليك الرعشة لا تنساني ..”(الديوان ص60)
الذات المستسلمة أمام عجز الروح تبتهل إلى الله ، فانسحاقه الكامل أمام العالم الذي أخذ أباه وخوفه من الفقدان للأم والأخت يجعله يقدم وعوده بأن يكون ولدا جيدا كي يستبقيه الرب ولا يأخذه كما أخذ أباه مرة أخرى. الخوف من العالم والفقدان والهروب من الألم هي المشاعر التي تسيطر على الشاعر فينحو منحى ميتافيزيقيا أشبه بالابتهال والدعاء . يقول الشاعر :
“يا الله / أنت أكبر من حقيبتي وكراسة الرسم العريضة وأطول من الدراجة والصالون ومن بلدتنا ..فلماذا لا تأتى إلا من السكة المهجورة ولا تترك إلا ظلا صغيرا ..؟” (الديوان ص 67)
وسط هذا العالم الممتلئ بالألم تبرز المرأة عند الذات الشاعرة بوصفها الملاكة الرحيمة المحبة ، والأم الحنون؛ هي مانحة الحياة وهى التي تعطى الشاعر الأمل والسبب كي يعيش ، هي التي تربطه بالحياة وبالعالم بعيدا عن أجواء الموت والألم ، فالمرأة ليست قاتلة بل ملاكة وتتقاطع صورة المرأة كملاكة مع أنها مصدر للرحمة والحنان والخير والجمال ؛ لذا يتم استدعاء صورة الأم بكثافة في قصائد الديوان .
إن الحب الأيروسي أو الحسي في هذا الديوان هو فعل الحياة الذي يواجه الموت ، والشغف بالجسد قد يكون معبر الشاعر للحياة أو ما يربطه بها “فجسد الإنسان هو مكان الانطلاقة الأولى للأمل والحياة والتفاؤل والتمكن والسيطرة والتقدم والمجاوزة والانتصار على كل مظاهر النقص والقصور وهو مكان الانفعالات والغرائز والأحلام ،وحالات الفرح والحزن والشيخوخة والموت ،مكان الخيال والتفكير والمنطق والتصورات والإبداع والفرح اللانهائي بالآخر الذي انفصل عنه والذي يحن دائما إليه”.([v]).. يقول الشاعر :
“………..ولنا عندك سحابتان /يوم رعشتها ، وساعة تكوم الجدار تحتنا ../حمل من النبضات على صرختين على شهقة تحت السرة ..،/وقليل من الحيوانات …/لصوت يجوس في الحفرة /لقلبها يهيم في البرية….. “ (الديوان ص11)
حضور هائل للألم والمعاناة ، واستخدام ضمير المتكلم بكثافة دلالة على شخصانية الوجع وذاتيته؛ فالعالم هو سجنه الكبير المليء بالجدران والتي تسخر من الشاعر؛ تضيق وتتسع وتطير . الشاعر يصور علاقته بالألم بأنها علاقة مازوخية، لقد استعذب ألمه وشعر بطعمه الرائع لأنه حوله إلى أدب مبجل ، تنتمي قصيدته للسرد الذاتي، والشاعر يوظف التناص مع شخصية المركيز دي ساد ليعبر عن قسوة الألم وساديته وبشاعة العالم وقسوته . يقول الشاعر :
“أنا المسجون العظيم ،/ أكثر من ربع قرن والجدران تتهكم وتجرى وتضيق وتطير وتتسع .. لكنها الآن تلهث وتعترف../ كل الآلام تحملتها ووضعتها في القدر حتى طلع قلبها الرائع في الأسود.. الجوهرة التي كانت تنام في الداخل لكنها الآن تملأ العيون ..كل الرعشات والدموع الملتاثة أحولها إلى أدب مبجل “. (الديوان ص43)
تمتلئ قصائد الديوان بتفاصيل من السيرة الذاتية ، فأحيانا يعود الشاعر إلى طفولته، وينتقى أحداث بعينها لتكون مواضيع محورية في شعره، وينبشُ ذكريات الطفولة، التي تخفّف فنياً من وطأة الواقع.لقد خرج الشاعر إلى العالم ليواجه مصيره ويحيا متاهة من الآلام لا تنتهي كالمسيح ، فيأتي معنى مثل : خلاص الولادة ليرمز لخلاصه الروحي ، ذلك أننا لم نختر وجودنا حين جئنا إلى عالمنا بإرادة علوية مفارقة، ولكن تبقى قدرتنا على اختيار ماهيتنا، أي الصورة التي يتشكل وجودنا على هيئتها، وملامحها العامة، وقسماتها المميزة، ومَواطن جمالها أو تشوهها، قوتها أو ضعفها ،تلتئم الجروح لكن الألم لا يفارق الشاعر والحياة كأنها متاهة ، والخلاص رمز لولادة الإنسان الأولى حين خرج من رحم أمه التي تألمت حتى تمنحه الحياة . يقول الشاعر:
“لماذا تلتئم جروحه سريعا ، رغم أن باقي الأعضاء أضعف من قشة ؟جدتي كانت تقول إنهم نسوا في البحر خلاص ولادة أمي ؛لهذا تغمض عينيها كلما عدَّت علينا العاصفة وترسم البيت غواصة ولحمنا شباكا وتغرق كل جرح في قلب الحوض ليسمو ..أما أنا فخلاصي دفنوه في الصحراء ..وكلما قامت الريح أو مرت قافلة شردت من تاريخها أو غنى حيوان جارح تنتفض أحداقي وينفتح الدم على العالم “.(الديوان ص13)
استدعاء الطفولة وذكرياتها والاحتماء بها من الواقع المؤلم ، فالماضي جميل كالحلم ، وهكذا الحياة قبض ريح وعبث والطفل رمز البراءة الإنسانية والنقاء يمزق متاهته فالأمل مازال موجودا ، ونرى السخرية من العالم ومن نفسه السخرية السوداء. يقول الشاعر:
“طفل يمر بدراجته ، ويقضم متاهته الملونة ،ويرجوني أن اضبط البكاء لكنني أبتسم مرة أخرى قبل أن أرقد بثقة وأنادى ساقيك جميلتان يا بنت../ سبع مرات أرشف من فم الساحرة ولا أجدك ..”(الديوان ص79)
الشاعر دوما على طريق الآلام وكأنه مسيح لا تنتهي عذاباته، يصلب كل يوم من أجل خلاص لا يأتي أبدا طالما استمر حياً، تتقاذفه الخيبات والإخفاقات الاحباطات ، يتلقى الهزائم دوماً ولكن غير مسموح له بالخروج من الملعب أبداً، فالمباراة لا تزال مستمرة، والصراع لم يزل قائماً، لقد نجت أمه من المعاناة الوجودية التي يحياها الشاعر لأنهم دفنوا خلاصها في البحر هكذا أخبرته جدته أما هو فدفنوا خلاصه في الصحراء القاحلة كل تلك الأمور، ترجع إلى الأساطير والمعتقدات القديمة والتي تقول إن المشيمة كائن حي قرين للطفل، وما يحدث لها يؤثر في الطفل الشاعر وأمام كل هذا الألم تنقسم الذات الشاعرة على نفسها والمخلص في النهاية داخل الشاعر.
يقيم الشاعر شعريته على الإفادة من تقنية السرد؛ يخلق حكايةً بمفارقات ذكية ينشئها الخيال،و(يشتط) بها، ويشبعها بطرافة سوداء. الفانتازيا هي قناع الشاعر وجهه الآخر الذي يحبه ويقصر حياته عليه، وتختلط الفانتازيا بالرؤية الكابوسية تنتج حكاية غرائبية في عالمها وبما يغنيها عن أي محاولة لإعطائها معنىً آخر (تأويلاً) غير معناها المباشر، طاقة إيحاء بالكثير من الدلالات،. يقول الشاعر:
“لحيتي كثة وعشوائية وعجوز، منذ أعوام أحملها معي في كل مكان ،وهى في غالب الأحوال لا تفرج عن ثقلها ،حتى لو اقتنصت الماء أو العرق أو القبلات ..أحس بوطـأتها فقط عندما أفرح من القلب أو أفتح عينى فجأة : أجرى للمرآة وأبتهل للدغل الصديق كيلا تصحو الرائحة ..مذاق القسوة في الأعطاف وقتها أنكمش أشوفها هائلة وتشبه أظافر جدي ..”(الديوان ص17)
حضور كبير للنبرة الذاتية والحدث، والآخرون والأشياء هم أبطال المشهد الشعري، وغزو عالم السرد وبناء حكاية من المشهد الشعري الذي تصفه. وتتعدد صور الموت التي يواجهها الشاعر فهو يعانى من فقدان الأحبة الذين ينسونه ويموتون . يقول الشاعر:
“ينسونني و يموتون ..رغم أننى من كنت أحدثهم صباح مساء عن الشبح ,يبدوأنهم أحبوها حقا يومها،لما صمتوا فجأة وحنقوا على الموت لأنه تعرى لهم في غرفهم ؛لهذا عاد وأمسكهم من ياقاتهم وغاب“.(الديوان ص19)
لقد فقد العالم جماله براءته وسحره صار وحشيا ومليئا بالكوابيس والقسوة ، اللغة مكثفة مشحونة بطاقة هائلة الذات الشاعرة في صراع مع العالم مما يؤدى لانقسامها وتشظيها ، وأيضا يهرب من العالم الواقعي الخارجي إلى داخل ذاته إلى ذكرياته في الماضي الآمن وإلى عالم الحواديت الممتلئ بقصص الأميرات والرحالة .
“وبعدها أعلمهم بالخبيئة :/ أغاني الرحالة الذين ذرفوا دمعتين لأجل حبيباتهم المأسورات والجوارح التي اختطفت الضحك الكاذب من فم الأميرة ..ذهب على هيئة فلاحين في حدائق الفرعون ..تمائم وتماسيح ..قرابين وصمت وحفر ورقصات ..دبيب الولد الذي يصنع الطلقات ويجرى نحو أبعد بيت في الناحية “. (الديوان ص65- ص66)
تحتفي القصيدة عند “مؤمن” بالميثولوجيا المعاصرة معادة التركيب ، فنجده يتحدث عن العالم الذي يمتلئ بالضحايا (القديسون ) الذين لا معجزات لهم سوى الحزن والألم الذي لا حدود له ولا نهاية ؛ الحزن الذي ينتزع منهم السعادة ويكتم ضحكتهم في الصدور القديسون الذين لم يعد العالم يتسع للأسى والحسرة التي تأكلهم يقول الشاعر :
“القديسون وحدهم في محطة القطار ……/ لا تماثيل حولهم ولا صلبان ولا دموع ،لا تطلع الحمامات من أكمامهم ولعلب البيرة ولا يفاجئهم حصان كان يغنى قرب ساحة الملكوت ..كفوفهم خالية من الأجنحة والصور المقطوفة من القبلة والأحضان وضحكتهم مكتومة في الممر ..ينزلون من الكتب على الرف ،فيصعدون إلى جلودهم ،ويرشفون ريق الرب من الأواني المسحورة ….”(الديوان ص77)
كما أن فقدان اليقين لدى الذات الشاعرة تجعلها تعيش في متاهتها تيه أبدي. كل يوم يواجه الشاعر متاهة جديدة تضاف إلى دائرة الضياع الكوني (المتاهات القديمة) فلا يهرب بل يمارس الرقص ألما كالمذبوح حتى تتمزق أنسجته ثم يفتح بعد ذلك جيوبه لتدخلها الريح وتلهو وهى تحمل أجزاء من لحمه وأجزاء من لحوم الآخرين يقول الشاعر :
“صنعت متاهة وكنت أمد ساقي على حافتها وأبتسم ../متاهاتي القديمة جلبتها معي ، واقتسمت الدوار مع الغربان والخوف مع السماء. وأتقدم وأقفز وتتحمل أنسجتي الرقص الوحشي وتتفتت بانسيابية …”(الديوان ص 79)
الشاعر يواجه مصيره دائما بالخوف والارتعاش بدون مقاومة ،يواجه دائما مواجهة سلبية عدمية بشكل يائس ، وحين أصابه الملل من كل ذلك الخوف الذي بدأ معه منذ مولده أراد أن ينبش عن القوة في ذاته كي يواجهه. يقول الشاعر:
“وعندما تسللت الشعيرات البيض لمخدتي انفرطت ثابتا، لم أرتعش للمرة الأولى فارتعشت من مذاقي الجديد !../ سأستمرئ اللعبة وأسيب نفسي بين الحفر أعدو كي تختارني القوة أو أنكش في التراب اللامع ،علِّي أقتنصها لحظة تجليها ….”(الديوان ص87).
القصيدة عند مؤمن سمير ليست حلما بالغد لكنها نواح يتصاعد فوق جثة الغد والقصائد تحتشد بالأسئلة ،الشاعر فقد الإيمان واليقين والحلم ، العالم غابة مليئة بالخوف والوحوش ولا سبيل أمام الشاعر إلا أن يكون وحشا كي يتخلص من الخوف ويعيش وسط الوحوش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة مصريّة
[ii]))المرجع السابق ، ص 124
[iv]))عبد الحق بلعابد عتبات ، (جيرار جينيت من النص إلى المناص) ، الطبعة الأولى 2008 منشورات الاختلاف. ص107
[v]))شاكر عبد الحميد ، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة ، مجلة (إبداع) ص98 ، العدد التاسع سبتمبر 1997م