منى كريم
ها نحن ثانية في المنفى، لسنا بأول جيل عربي يسّيب نفسه للمتاهة كما لن نكون الأخيرين، يسموننا مهاجرين تارة أو لاجئين ومهمشين تارة أخرى، يدعوننا للحديث عن الهامش من الهامش “كيف هو الطقس على الهامش؟” يضعوننا في أنطولوجيات لن يقرأها سوى مومياوات المؤسسات أو جيتوهات دراسات الشرق الأوسط، يتعاملون مع قصائدنا ورواياتنا باعتبارها وثائق، أو اعترافات من الجانب المظلم من النفق. أو قد يتطور الأمر قليلًا فيضعون شرطة هي بمثابة جسر ضبابي بين هويتنا وهويتهم “عربي-أمريكي”، جسر لا يهدف للعبور، يتولون حراسته، وسوف يبنون عليه حائطًا مكهربًا يومًا ما.
قضيت في الولايات المتحدة حتى الآن 10 سنوات. لم أحصل على الجنسية بعد وما زلت أسافر بجواز سفر لاجئ مدته 12 شهرًا، ويقتضي تجديده 3 شهور في كل مرة، باعتبار أن السفر رفاهية. يتم الإشارة إليّ باعتباري كاتبة “عربية-أمريكية” بلا تردد، ولا أعلم متى بالضبط حدث التحول في تصنيفي من “كاتب عربي منفي” إلى كاتب “عربي- أمريكي”.
في المقابل، ولدت وتربيت في الكويت حتى سن الثانية والعشرين، نشرت خلالها مجموعتين شعريتين، عملت في الصحف المحلية لخمس سنوات، بل أني لم أترك مجالًا إلا وتمرغت فيه: التمثيل، النقد المسرحي، الترجمة الأدبية، التنظيم السياسي، النسوي والعمالي و”البدوني”، لعبت على الكمنجة والعود والبيانو، ولولا أن صوتي شحيح وقبيح لوجدتموني أغني في المولات التجارية وعلى شواطئ الخليج الملوثة. عشت حياة ضخمة خلال عمر قصير، نجحت وفشلت وكبرت، كل ذلك دون مسمى أو مصنف أحمله.
في 2011، وبعد ولادة حراك “البدون” في الشارع الكويتي، صار هنالك شيء اسمه “أدب البدون”. من قبل، كانت أنطولوجيات وموسوعات الأدب الكويتي تتجاهل وجودنا، والتي لا هدف منها سوى تثبيت فكرة أن لدينا بالفعل أدبًا وبالتالي لدينا أيضًا أمة وتاريخًا ودولة، يقصوننا من “رابطة الأدباء الكويتيين” ومن كل جمعيات النفع العام التي من المفترض أن تكون أكثر ديمقراطية من الدولة إلا أنها في الحقيقة أكثر بؤسًا ورجعية وعنصرية.
نتصاحب ونتسامر مع رفاقنا المهاجرين، من المصريين والسوريين والفلسطينيين وغيرهم من العرب التائهين في بلاد النفط، نعرف أننا على الهامش، هامش الهنا وهامش الهناك، ولا نعرف كيف نخلق من هامشنا هذا شيئًا، جغرافية أخرى خاصة بنا، مساحة غير قائمة على السيد المواطن. لم يكن لـ “أدب البدون” أن يولد لولا أن حراك البدون قد ولد، فكل قضية سياسية بالطبيعة تحتاج إلى الأدب والثقافة لتسريد معاناة وحراك قوم ما نحو تطلعاتهم الجمعية. كانت النبذة التعريفية للواحد تأتي في سطر مبهم “ولد في الكويت” أو أن تكتب “شاعر بدون” فيقوم المحرر بإلغائها، إذ كيف يمكن تعريف الواحد بصيغة النفي.
في المنفى، تعرفت على شعوب خليجية أخرى، على كتاب أصولهم من الهند وإيران ومصر وفلسطين، ممن يكتبون بالإنجليزية، لكنهم ولدوا وتربوا في الخليج ثم انتهى بهم الأمر في المنفى لأسباب شتى. يقومون بالتعريف عن أنفسهم “كاتب من أبو ظبي” أو “شاعر من دبي”، بل أن بعضهم لا يجيد العربية حتى. استوعبت من خلال قراءة نصوصهم التي تصور خليجًا آخر تمامًا أن مخيلتي قد وقعت ضحية لتعريفات الأدب القومي، كيف نجحت مؤسسات الدولة في العالم العربي بأكمله بتثبيت فكرة الأدب القومي باعتباره أدبًا يكتبه المواطن وبالضرورة بالعربية، أدب مرتبط بهوية وسرديات الدولة، لا بالجغرافيا التي هي الوعاء الطبيعي لكل فعل إبداعي. نُزلت منظومة الدولة في العالم العربي أو حتى في العالم الثالث بذات الشكل الإسمنتي: كي تختلق دولتك، اصنع ثقافة فلكورية وأدبًا وفنونًا وأزياء محلية، هكذا ستصبح الكذبة حقيقة لا محال.
أرسل عبد الناصر لجانه المختصة إلى كافة أنحاء الخليج ينظمون عمليات ومسارات الثقافة ليمرروها من بعد لأجيال المواطنين يحرسونها ويتفاخرون بها بصدور مفتوحة. وضمن هذه العمليات العنيفة، لم يترك أحدهم أي مجال للمهاجر أو البدون أو أي عابر آخر عالق معهم ليشارك بمنتجه الثقافي هو أيضًا. ترعرعت في بلد، بعد حرب الخليج، كان تلفزيونها الوطني يقوم بقص أسماء الفنان الفلسطيني أو العراقي من تترات المسلسلات والبرامج، بل حد الوصول لإلغاء مشاهد كاملة من “ثقافتهم الوطنية” لأنها من صنع أو تمثيل العدو الجديد، وكان الناس يتداولون كاسيتات كاظم الساهر وياس خضر من تحت الطاولة كما ممنوعات الخمرة والحشيش. بعد احتلال العراق 2003، احتفل الناس بالأعياد الوطنية في الكويت بشكل مختلف وقتها، تتزاحم سياراتهم على شاطئ الخليج صادحة بالأغاني العراقية بأعلى صوت. الله، الحرية، أن تسمع موالًا عراقيًا في الشارع.
في مقالة عن خماسية مدن الملح لـ عبد الرحمن منيف، كتب الروائي الهندي أميتاف جوش مقالة استثنائية بعنوان خيال النفط تنسف مشروع الأدب في الخليج. يناقش جوش كيف أن الأدب في كل مكان لم يعرف كيف يتعامل مع اكتشاف النفط، فاستنباط هذا الخام الذي غير موازين القوى في العالم، يحدث في أماكن بعيدة عن ناظر الإنسان، ثم تتم مداولته في أسواق متخيلة لا نعرف عنها سوى مؤشرات الأسعار خلال النشرة الاقتصادية. ثم يركز غوش على أن مدن الملح قد تكون المحاولة الأدبية الوحيدة لفهم هذا اللقاء المهيب بين الإنسان والنفط، وفي منطقة وعرة جدًا هي منطقة الخليج حيث التاريخ لم يمر بمراحل تطور طبيعية من الإقطاعية إلى الثورة الصناعية فالرأسمالية النفطية.
على العكس، وكما نفهم من رواية منيف، تحولت الخليج من جغرافيا جماعات صغيرة متوزعة بين ضفتي الصحراء والبحر إلى دول ومدن تنمو أسرع مما يسع لرئتي التاريخ احتوائه. حين تفتح رواية ما عن الخليج تلاحظ كيف أن هوّة النفط أو هوّة الحداثة هائلة ومظلمة ومليئة بالصمت، كل عمل يقفز من توصيف الحياة البسيطة إلى إشكاليات وطموح الحياة الحديثة. ولكن ماذا عن ذاك الشرخ، عن الايكولوجيا التي ضاعت في المنتصف، أن تكون الصحراء صالون بيتك في الأمس فتصبح حبيس بيت اسمنتي في اليوم التالي؟ لا شيء.
يناقش جوش التدخل الذكي الذي أقدم عليه منيف في الجزء الأول من الخماسية، في التقاط هذا التناقض المريب الذي بطبيعته سهل من جعل المنطقة ساحة يلعب فيها الأمريكان بحرية، لكنه يعبر عن فشل منيف في الجزء الثاني من الرواية حينما يستسلم لثنائية المواطن و”الوافد” ليعتبر هذا الآخر المستلب جزء من المنظومة التي تسرق الأرض والحرية بمشروع النفط. وقد يكون فشل منيف هذا استعارة كبرى لفشل الأدب في الخليج حتى اليوم في خلخلة السردية التاريخية المهيمنة وفي هدم ثنائية المواطن والآخر، بل وحتى في التحرر من أكذوبة الأدب القومي التي لم تكن لا قبل النفط ولا بعده لائقة بالمنتجات الثقافية على أرض الواقع.
لا أطمح اليوم لشَرطة (-) أضعها بين هويتين، لا أظن أن هذه العلامة الترقيمية ستخلق مكانًا لروايات إبراهيم عبد المجيد وصنع الله إبراهيم وغسان كنفاني ومحمد الأسعد وخزامة حبايب ويحيى يخلف ووليد أبو بكر وأحمد زين والصف الطويل العريض من الكتاب العرب والجنوب آسيويين والأفارقة الذين عاشوا أو كتبوا عن الخليج. ولكني أعرف أن بإمكاني حتى ولو بملعقة واحدة في يدي أن أنسف هذه الجدران التي يحتمي بها الأدب القومي، ومن يكتسب مساحة لنفسه من خلف هذه الجدران.