وحين تهاوى الجسد الفارع على أثر الطلقات المتدفقة، دون رحمة، من فوهات بنادق كتيبة الإعدام، مادت بي الأرض…
فتحت أجفاني لأجد نفسي مستلقيا على أريكة وثيرة وسط غرفة أثثت بأناقة. ولحظة استعدت كامل وعيي، انتصب أمامي ثلاثة رجال، وخاطبني ذو الشارب الكث:
– حمدا لله على سلامتك. بعد الإفطار سنذهب إلى العمل. ونرجو أن تبدي رغبة في التعاون معنا، كي تكون الأمور على أحسن ما يرام.
… قادوني إلى غرفة أخلفت كل توقعاتي. لم تكن قاعة تحقيق باردة، شبه معتمة، وخالية إلا من طاولة وكرسي، بل كانت – يا للمفاجأة العصية على التصديق! – مكتبة.. كانت فسيحة، عالية السقف، بها ممرات تفصل بين رفوفها، ولها حائط من زجاج سميك يطل على منظر الأشجار بالخارج، وفي قلبها طاولة مستديرة من حجم كبير، تحيط بها مقاعد فاخرة، ولو رفعت رأسك إلى أعلى لبهرك السقف المقبب بنوافذه الزجاجية الملونة تخترقها أشعة الشمس. لم أبذل أدنى جهد لاكتشاف أنها ذات المكتبة التي ألفتها جوارحي وتعلق بها قلبي، بما أني قضيت فيها أيام عزلة وهبتها للسفر في الكتب ولابتكار لغة سرية. كنت أعرفها رفّا رفّا، وقد أتيح لي أن أتصفح من كتبها المئات إن لم أكن قد التهمت كلماتها.
وعلى الرغم من موجة السعادة التي غمرتني إذ وجدتني في أحب مكان إلى نفسي، فإن هاجسا رهيبا جثم على صدري. لا يتعلق الأمر بملاقاة المصير الذي كان من نصيب صاحبي، فهذا شيء أتوقعه في أي لحظة، ولعلي لن أعثر – رغم الخوف المستبد بأعماقي – على مكان يخترق فيه الرصاص جسدي أفضل من هذه المكتبة. ما كان يرعبني حقا هو أن يضعوا أيديهم على “كتاب الأسرار”…
بينما كنت أتقلب على جمر هذا الهاجس، ألقى ذو الشارب الكث بين يدي كتابا بغلاف من جلدٍ بُنّي، ثم عقب بأنهم استقصوا المكتبة كتابا كتابا، واقتضى منهم ذلك وقتا وجهدا كبيرين بالنظر إلى حمولتها الهائلة. قال إنهم كانوا يعرفون أننا نحتفظ بكتاب الأسرار في مكان ما، ويرجحون أن تكون مكتبة القصر الرئاسي المخبأ الأثير، ليس فقط لأنها مكتبة أعلى دائرة قرار في البلاد، بل أيضا وأساسا لأنها توفر أكبر متاهة لإخفاء كتاب! تابع قائلا إنهم كانوا يخشون أن تدفعنا الهزيمة إلى تقديم الكتاب لقمة سائغة لألسنة النار، لكن الحظ كان إلى جانبهم…
أخلد إلى لحظة صمت، كنت خلالها نهبا لنظرات صريحة تقرأ تعابير وجهي وتحاول سبر أغوار نفسي: نظراته التي يسددها نحوي من خلف نظارة شفافة من غير إطار، ونظرات فريقه المتوارية وراء نظارات قاتمة، والمنهالة عليّ من كل ناحية، ثاقبة كما لابد أن تكون، وجاهزة لالتقاط أدنى حركة تبدر مني.
واصل قائلا:
– الكتاب الآن بين يديك، وأنت القادر على فك شفرته. نرغب أن تصير واحدا من رجالنا، إذ لدينا نحن أيضا أسرارنا التي تحتاج التدوين في كتاب بلغة سرية، ونحن على علم بأنك عالم متبحر في اللغات القديمة، فضلا عن كونك مخترع لغة سرية. مطلوب منك يا سيدي أن تترجم لنا فحوى الكتاب سطراً سطرا.
مددت يدي إلى الكتاب وفتحته. ألقيت نظرة على الصفحة الأولى، محاولا بعناء بادٍ قراءة الكلمات، ثم رفعت عيني إلى ذي الشارب الكث:
– لا أستطيع القراءة!
– غير ممكن!
– لا بد أنكم لاحظتم أن الكلمات تبدو سحيقة البعد منفلتة من قبضة البصر.
– نقدر لك، بادئ ذي بدء، رغبتك في التعاون.. إلا أننا لا نرحب بالمراوغة. ألست شريكا في إنجاز هذا الكتاب؟
– لا أظن أن عميلكم قد أغفل تبليغكم بأن الدور الذي نهضت به لم يجاوز حدود ابتكار لغة الكتاب. وإن لم تكونوا قد أفلحتم في استلال سر القراءة من صاحبي الش.. الق.. القتيل، فإنكم تهدرون وقتكم إذ تنتظرون مني أن أمنحكم ما أفتقر إليه!
قهقه ذو الشارب الكث عاليا، ثم وضع بين يدي حقيبة من جلد أزرق فاتح، وتطلع إليّ بملامح تخاطبني من غير كلمات: «والآن ما رأيك؟ لا أحسبك تملك عذرا آخر للتملص من تنفيذ الأمر!». رددت عليه بنفس اللغة: «ماذا تعني؟ لا أفهم قصدك!».
أجابني مشيرا إلى الحقيبة:
– افتح يا سمسم!
قلت له إني لا أتوفر على مفتاح الحقيبة ولا علم لي بمكانه. عاود التضاحك مكررا أنهم يرغبون في كسب ودي، وليس هناك داع لأن تصير روحي هدفا لرصاص كتيبة الإعدام، فتتهاوى كل مشروعاتي وأحلامي أنقاضا فوق رأسي.
ثم أردف:
– ولا تنس أننا نستطيع تدمير قفل الحقيبة، ولكننا نحب معالجة الأمور برفق.
قلت بصوت حاولت أن أجعله هادئا:
– أنا حقا لا أملك المفتاح.
– لا نريد المفتاح، بل الأرقام السرية!
كنت أراهن على إخفاقهم في فتح الحقيبة، أو تدمير محتوياتها في حال فتحها بالعنف. إلا أن أحد الرجال تلقى إشارة من ذي الشارب الكث، لما تمسكت بإنكاري، فسحب الحقيبة ناحيته وحاول فتحها عبر اختبار الاحتمالات التي يسمح بها ترتيب أرقام القفل العشرة.
مضى ما يقارب ربع ساعة وهو ينتقل من احتمال إلى آخر دون أن يفلح في مهمته. فخاطبني ذو الشارب الكث قائلا:
– لا شك أن عدد الاحتمالات هائل، لكنه محدود في آخر المطاف. بمستطاعنا المضي في اختبار الاحتمالات الممكنة حتى نعثر على الرقم السري. المسألة مسألة وقت فقط. لذلك عجل، سيدي الفاضل، باختصار الأمر، توفيرا لوقت سنتفرغ فيه لأمور أكثر جدية وأكثر نفعا، لنا ولك.
حدثت نفسي، في رجاء يائس أو يأس راج: «فلأكسب مزيدا من الوقت. لقد اكتسح الغزاة بلدنا، إلا أن عرقلة وصولهم إلى أهدافهم، على أي نحو كانت، لابد أن تشكل جزءا من حركة الكفاح..». تشبثت، من ثم، بنفي علمي برقم الحقيبة.
بيد أنهم صبوا على رأسي مفاجأة من عيار ثقيل، في الوقت الذي كنت أترقب فيه أن يأمر ذو الشارب الكث بتمزيق الحقيبة أو الاستعاضة عن الترغيب بالترهيب أو مواصلة المحاولة..
قبل خمس سنوات من الآن، جرى ضمي رفقة صاحبي الشهيد إلى فريق عمل عُهد إليه بمهمة إنشاء “كتاب الأسرار”. فبينما كُلفت بابتكار اللغة السرية للكتاب وأشرفت على ترجمة أسرار الدولة إليها، اخترع صاحبي الحبر السري الذي استخدم في رسم حروف الكتاب.
كنت قد وضعت معجما لشرح مفردات لغة الكتاب والقواعد العامة لتركيبها، وقد أحرقته حين رأيت الغزاة يقتحمون القصر الرئاسي. وكنت قد شرعت في تكوين إطارين ساميين لقراءة اللغة السرية وكتابتها، إلا أني لم أختبر مكتسباتهما بعد، ولا أعلم ما الذي حل بهما.
أما صاحبي فكان قد ابتكر طريقة معقدة لاستخدام الحبر: صنع أصنافا مختلفة من الأقلام والنظارات، كل قلم مزود بحبر خاص، وكل نظارة معدة لقراءة حبر معين.
ولما باشرنا تحبير الكتاب استعملنا، بالتناوب، كل تلك الأقلام التي يبلغ عددها السبعة. وتوسلنا بأسلوب عشوائي في التناوب، إذ كنا نغير قلم الكتابة بعد صفحة أو فقرة أو حتى سطر أو سطرين، لكن مع مراعاة ضرورة وضع رقم النظارة المناسبة على هامش مجموع الكلمات المحبرة بقلم معين.
بعينين مستوفيتين لكامل صحوهما، كنت قد رأيت صاحبي العالم يخترق صدره رصاص كتيبة الإعدام، وتزهق روحه فيما يتهاوى إلى الأرض كجدار ينهار. لذلك رجّني رجا ما رأيت حين انشق باب الغرفة من منتصفه.
مصطفى العلّوم، مخترع الحبر السري، هو من كان يتقدم، تحت نظري، صوب الطاولة التي كنت جالسا إليها. هو بدمه ولحمه يخطو بتثاقل، وقد بدا شاحب الوجه. حدقت إليه فاركا عيني لا أكاد أصدق… رفع رأسه نحوي، فامتلأت عيناه بالدهشة حال اصطدام عينيه بنظراتي المشدوهة، ووقف مترددا أمام الطاولة، قبالتي تقريبا.
قال لي ذو الشارب الكث بنبرة ساخرة تقطر زهوا:
– نعذر جهلك بالرقم السري للحقيبة يا صاحب السر! صاحبك سيعفيك من مشقة فض القفل، لكن اذخر قواك لفك شفرة كلمات شهدت على نفسك بامتلاك سرها، مادمت أنت من ابتكرها.
ثم أشار بيده إلى صاحبي الذي انكب على القفل للحظة، بأصابع مرتجفة، قبل أن تنفتح الحقيبة، ثم رجع أدراجه من حيث أتى بعد أن رشقني بنظرة أخرى. دهشته وارتباكه نحيا جانبا أدنى شك في هويته. إنه قطعا مصطفى العلّوم. أصابعه لم تكف عن الارتجاف، بسبب شعوره، على الأرجح، بأنه متورط في موقف مُخزٍ. لكن كيف يعقل أن يتورط؟ وقبل ذلك، ألم يقصف رصاصهم روحه؟
اصطخبت أعماقي بالأسئلة المحيرة، وأصبحت مثل تائه في بحر بلا بوصلة حتى أني لم أدر متى تلقيت إشارة البدء في الترجمة وكيف انهمكت في العمل دون أدنى مقاومة.
وأنا موشك على إنهاء الصفحة الأولى تنبهت إلى نفسي. كنت أقرأ جملة من الكتاب بصوت مسموع، ثم أترجمها، فتسجل كلماتي مسجلةٌ من الحجم الصغير ومراقبان مزودان بأقلام ودفاتر يجلسان إلى الطاولة نفسها. خلعت النظارة حين غامت الحروف، والتقطت رقم النظارة المسجل في منتصف هامش الصفحة، وإذ هممت بإعادة النظارة إلى مكانها في الحقيبة جاءني صوت ذي الشارب الكث:
– مهلا أستاذ، هلا تفضلت بإعادة ترجمة السطور الفارطة!
نفذت أمره من غير تردد. شرع المراقبان يمرران قلميهما تحت سطور دفتريهما مقتفييْن أثر ترجمتي.
– هل الأمر على ما يرام؟ سألهما ذو الشارب الكث.
تبادلا النظرات فيما بينهما، وتهامسا، قبل أن يرد عليه أحدهما:
– تقريبا.
– تقريبا؟! ماذا تعني؟
بعد أن حنى رأسه لحظة إلى دفتره منقلا عينيه بين سطوره، أجاب:
– هناك تغيير طفيف في الأسلوب، أما المحتوى فهو نفسه.
تنهد ذو الشارب الكث بعمق، ووجه إليّ الأمر باستئناف الترجمة. لكني طلبت ماء، فقال:
– عفوا! لقد نسينا. أحضروا لصديقنا ماء وقهوة. أم لعلك تريد شايا؟
– قهوة سوداء من غير سكر.
أخذت أرشف القهوة بتأن، متطلعا إلى منظر أشجار النارنج اليانعة الذي يملأ شاشة الحائط الزجاجي للمكتبة. ولم ألبث أن شعرت بذهني يصفو، والوقعُ الفادح للصدمة – صدمة اكتشاف صاحبي حيا يرزق وخائنا – راح يخف شيئا فشيئا؛ إذ ألح علي احتمال أن أكون ضحية مشهد تمثيلي مخادع. ما الذي يفسر كون الرجل الذي حسبته صاحبي لم يتلفظ ولو بحرف واحد يتيح لي التثبت من مطابقة صوته لصوت مصطفى العلّوم؟ ولماذا سارع إلى مغادرة الخزانة بمجرد أن فض قفل الحقيبة؟ هل كان يخشى أن أنفذ بنظراتي إلى زيفه؟
ربما عثروا، بطريقة ما، على الرقم السري، فلقنوه لممثل يرتدي قناعا يشبه وجه مصطفى العلّوم. أ تُراهم يتلاعبون بي؟ إن لم يكن بحوزتهم أحد غيري للنهوض بترجمة كتاب الأسرار، فما أثقل العبء الذي ينتظرني! ذلك أني مطالب بحماية أسرار بلادي، وبما أن قبضتهم قوية فليس أمامي سوى أن أكتم هذه الأسرار في الوقت الذي يبدو فيه أني أفشيها. لقد خذلتني نفسي ساعة الصدمة، فترجمت حرفيا شبه صفحة من المقدمة. غير أن ما يعزيني هو أن المقدمة لا تمنح سوى عناوين عامة وخطوط عريضة بلا أدنى تفصيل، فهي أشبه بعنوان الفيلم وملصقه.
استأنفت الترجمة على نفس المنوال حتى انتهيت من صفحات المقدمة. ثم انتقلت إلى الفصل الأول، إلا أني شرعت في تنفيذ خطتي: أغير النسب والمقادير وأسماء المواقع المهمة وأرقام المسافات…
استوقفني ذو الشارب الكث لما هممت بتبديل النظارة، فأخضعني للاختبار مرة أخرى. جهدت أن أحافظ على هدوء النفس وأن أسترجع كلمات الترجمة دون نسيان التغييرات. اكتفى المراقبان بتحريك رأسيهما مصادقيْن على أمانة ما قمت بترجمته. أسكرني نجاح ذاكرتي في الاسترجاع، فعولت على مواصلة التحريف يخالجني إحساس غامر بالثقة.
أبلغني ذو الشارب الكث، ليحفزني دون شك على مزيد من الجهد، بأني سأعمل لساعة أخرى فقط، ثم أحظى باستراحة مستحقة أتناول فيها الغداء وألتقط أنفاسي.
في غضون تلك الساعة بدلتُ النظارات لأكثر من مرة، وشارفتُ على إتمام صفحات ثلاث، إلا أن ذا الشارب الكث لم يعمد إلى اختباري. ساورني القلق خوفا من المصيدة التي كانت تدبر لذاكرتي على مهل. فبقدر ما كنت أتقدم إلى سطر جديد، كنت أراكم مزيدا من التحريفات، كمن يوغل في الابتعاد عن نقطة انطلاقه، خطوة بعد أخرى، فيعرض نفسه لخطر التيه. سعيت جاهدا أن أستحضر يقظة ذهني إلى حدودها القصوى. لكن مشكلة اعترضتني على حين فجأة. لقد بدت الحروف غائمة، عندما لبست النظارة الحاملة للرقم خمسة. خلعتها، ألقيت نظرة على الهامش، وقرأت الرمز: “ن 5”. استغربت أن تكف النظارة عن إنجاز وظيفتها، إلا أني أردت أن أتريث قليلا قبل أن أعرض المشكلة على ذي الشارب الكث. لذلك قلبت الصفحات السابقة لتحديد السطور التي استعملت فيها “ن5“، وكم كانت دهشتي عظيمة وأنا أكتشف أني اعتمدت على جميع النظارات ما عدا “ن5“!
أحسست تحت تأثير هذا الاكتشاف أن ذاكرتي قد خذلتني هذه المرة، فلم تحتفظ بأي ظل لذكرى هذا الغياب الذي ارتضيناه ل “ن 5“، لتحضر في السطور الأخيرة من الصفحة الثالثة بالفصل الأول، دون أن تسعف القارئ على تبديد الغموض عن الكلمات. هل خضعت سرية الكتابة للتغيير دون علمي؟ لقد أُنجزتْ النسخة الأصلية من كتاب الأسرار تحت إشرافي وبخط يدي. وإذ أنظر الآن إلى النسخة التي بين يدي لا أجد فرقا بينها وبين النسخة الأصلية، فالخط هو خطي نفسه.. لكن مهلا! خطي يكاد يضاهي جمال خط ابن مقلة الخطاط الشهير، فأنا أمتثل حرفيا لقواعد الخط العربي. ولعل هذه الخاصية ترفع عن خطي كل صبغة ذاتية، فيغدو مطابقا لأي خط يرسمه قلم خطاط جيد، ما يجعل تمييز خط عن آخر صعبا. بيد أني أظن، إذ أدقق النظر في استدارات الحروف، أن ثمة اختلافا طفيفا بين خطي وهذا الخط، تفضحه أشكال حروف الراء واللام والكاف.
– هل هناك ما يستوقف نظرك؟ سألني ذو الشارب الكث.
التفتّ نحوه:
– النظارة “5” لا تعمل.
– كيف؟!
ناولته النظارة، فجرب أن ينظر بها إلى السطور الغائمة، ثم حرك رأسه في قلق مؤكدا صحة قولي، وطفق يردد: «غريب!». سألني إن كنت قد استعملت “ن5” فيما سبق، فأجبت نفيا. عندئذ حك ذقنه متفكرا للحظة قبل أن يجرب رؤية السطور بالنظارات الأخرى. «سنجد حلا للمشكلة»، زفر بتأفف.
داخل الغرفة الفخمة – الملحقة بالمكتبة – أغدقوا عليّ وجبة غداء أسالت لعابي برائحتها وحتى بطريقة تقديمها. لم يخامر الشك حواسي في كون أصابع خبيرة تنحدر من أصالة بلدي هي من أعدتها. أقبلت على الوجبة متنفسا ملء رئتي، لأنهم أعفوني من حضورهم البغيض، وإن كان القلق والحيرة لم يفتآ ينهشان رأسي: يقلقني شبح الاختبار القادم، ويحيرني تبديل نسختي من “كتاب الأسرار”، من خلف ظهري. هذا إن صح ظني. تساءلت عن سر تساهلهم – إن لم أقل تهاونهم- في حراستي، فيما كنت أتناول السَّلَطة بالملعقة. وعبثا جلت بنظري في جدران الغرفة وزواياها بحثا عن عين تترصد حركاتي وسكناتي. ثم مررت إلى صحن اللحم بمرق اللوز والبرقوق، بالشهية نفسها التي تستبد بي دائما أمام هذا الصحن. ولم ألبث أن اكتشفت أن أدوات المائدة من صحون وملعقة وسكين وكوب.. كلها مصنوعة من لدائن! لكنها تبدو، بلونها الأزرق الفاتح، كما لو أنها من سيراميك أو زجاج. قفز السبب توا إلى رأسي: لقد أبعدوا عن متناول يدي أي شيء حاد يمكن أن ألجأ إليه فيما لو سولت لي نفسي الرحيل إلى العالم الآخر. ختمت وجبتي بطبق الفواكه، وأغراني كرمهم بالتماس فسحة لأداء صلاتي، فنعمت روحي بلحظة خشوع أخمدت هواجسي.
أعادوني بعدئذ إلى الطاولة المستديرة لأواصل ترجمتي الخائنة. أرشف رشفة من فنجان القهوة – هذه المرة لم ينسوا أن يضعوا رهن رغبتي كظيمة من القهوة – وبصوت مرتفع أقرأ مثلا:
– جاروك زانْ دِباشْ هِرْباضْ يوقاجا…
أتفكر قليلا ثم أشرع في الترجمة، والمسجلة تلتقط ما أتلفظ به، والمراقبان لا يفلتان بدورهما كلمة مما أترجم. راحت “ن5” تعلن عن حضورها من حين لآخر، إلا أني كنت أقفز على الأسطر المرتبطة بها منبها إلى ترك مكانها فارغا.
غياب ذي الشارب الكث بلبل فكري، فمذ تركوني أختلي بوجبة الغداء لم تقع عليه عيناي، ولما أعادوني إلى المكتبة ألقوا على مسمعي رسالته إليّ:
– اقفز على “ن5” مؤقتا، وتوخّ الدقة في الترجمة، خذ ما يكفيك من وقت، المهم أن تكون دقيقا.
تشديد الرسالة على الدقة بعث القشعريرة في قلبي، حتى أني شعرت بصوتي يتهدج قليلا عندما شرعت في القراءة والترجمة. غير أني حاولت استعادة تماسكي…
ويبدو أن تيار الشرود جرفني بعيدا، إذ تنبهت إلى نفسي صامتا بينما المراقبان يحدقان إليّ وقد توقفا عن التسجيل. تنحنحت مخلخلا ثقل الصمت المطبق، ورشفت جرعة قهوة، ثم استأنفت العمل.
عندما كانت ساعة المكتبة المعلقة أعلى الجدار الزجاجي تشير إلى العاشرة والنصف ليلا، أُمرت بالكف عن الترجمة، وتم اقتيادي إلى الغرفة – المطعم لتناول وجبة العشاء. ولم يبد لي من قبيل الصدفة أن يتحفوني بحساء “المفلّقة”، مرفقا بصحن صغير من التمر، على جري عادتي في إعفاء معدتي من عبء الهضم الليلي. لكن من هذا اللعين الذي كان يتجسس علي داخل إقامتي بالقصر الرئاسي؟
في غرفة النوم الباذخة التي ساقوني إليها، انخرطت في صلاة خاشعة التماسا لسكينة روحية تمنحني القدرة على الاحتفاظ بتوازني في خضم محنتي الراهنة. وحين أرخيت رأسي على الوسادة، جهدت أن أعثر على طريقة تجنبني الرسوب في الاختبار القادم، فاتضح لي أن ذاكرتي قد تفقد وهجها لسببين؛ أولا لأني أحرّف الكتاب بشكل تلقائي، دون قاعدة محددة، وثانيا لأن الإنهاك قد يكتسح خلايا دماغي من فرط الاشتغال. عليّ إذن أن أتباطأ قدر ما أستطيع كي أحافظ على طاقتي. وعليّ أيضا أن أضع قاعدة للتحريف. غلبني النوم دون أن أتوصل إلى شيء يرضيني.
في اليوم الموالي، بينما كنت منكبا على الترجمة، جاء ذو الشارب الكث رفقة صاحبي العلّوم، أو بالأحرى ذلك الممثل الذي يتقمص شخصيته. تناول مني الكتاب، وبعد أن جرب القراءة بنظارة كان يحملها معه، قفز فرحا وهو يردد:
– إنها تعمل!
والتفت ناحية صاحبي العلّوم الذي لم أعد أجد بدا من الكف عن الشك في هويته، وقال:
– نحن مدينون لك بالكثير يا عالمنا المقتدر، لقد أنقذتنا مرتين: في الأولى، فتحت قفل الحقيبة. وفي الثانية، ها أنتذا تزيل عقبة “ن 5”.
ومثلما حدث في المرة الأولى، تبادلت النظرات مع صاحبي، غير أن عينيه، هاته المرة، كانتا تقولان لي: «لابد أن نتحدث، لديّ ما أقوله لك».
لكن ما كنت أخشاه وقع أخيرا. ذات صباح، بينما كنت منكبا على ترجمة الفقرات التي تحمل الرمز “ن 5″، جاء ذو الشارب الكث، حياني بلطف باشا في وجهي، قبل أن يعلن مصوبا إليّ نظرة تشوبها مسحة شك:
– دعنا نرى حصيلة عملك يا سيدي!
دار حول الطاولة ليقف بجانبي، فارتعش قلبي. أخذ يتصفح كتاب الأسرار لحظة قبل أن يرسو على إحدى الصفحات:
– أعد ترجمة العبارة الأولى من الصفحة الثالثة.
بصوت مرتفع، قرأت العبارة مرتين، مطمئنا إلى أني سأوفق في التعبير عن معناها مادامت تشكل جزءا من المقدمة… تابعني المراقبان عبر دفتريهما. ثم قلب ذو الشارب الكث الصفحات، وقال:
– أعد ترجمة العبارة الأولى من الفقرة الثانية بالصفحة 11.
استجبت للطلب يساورني الشك في قدرة ذاكرتي على استرجاع ما سبق أن ترجمته من قبل. تضاعفت شكوكي وهو ينتقل بي من صفحة منتقاة إلى أخرى… وما إن حرك المراقبان رأسيهما يمينا وشمالا والخيبة بادية على وجهيهما، حتى ضرب الطاولة بقبضة يده غضبا، وزمجر:
– تضحك علينا؟! حسنا، يا يوسف الدربي. سأريك النجوم في عز الظهر لتعرف جيدا أننا احترمناك أكثر من اللازم.
إثر إشارة من يده، حضر توا ثلاثة رجال بأجسام مفتولة، وملامح متجهمة. بادروا إلى تكبيل يديّ خلف ظهري، وأخذوني خارج المكتبة إلى الحديقة الخلفية للقصر. جرّوني تحديدا إلى بئر أعرف أنه تمويه لنفق سري يفضي إلى دار في حي عتيق بالمدينة. قيّدوا قدميّ أيضا، وربطوهما إلى الحبل المتدلي داخل البئر، عبر بكرة معدنية معلقة. أنزلوني إلى الأعماق، تدريجيا، على الإيقاع النائح الذي تحدثه البكرة. رجلاي في الأعلى، ورأسي في الأسفل، يهبط إلى ظلام البئر الذي كان يتكاثف ثانية إثر أخرى. أحسست برأسي ثقيلا مضغوطا، كأنما تركز فيه ثقل جسدي كله، وأطبق على أذنيّ هسيس مزعج. دخت قليلا فيما كنت أقلب عيني في عتمة البئر. لم تزايلني الدوخة حتى حين أغمضت جفني. التقطتْ خياشيمي، في الآن نفسه، رائحة رطوبة زنخة، وأخذت أنفاسي تتلاحق وصدري يهتز. ومع ازدياد وتيرة الهبوط، راحت أنفاسي تتباطأ كأني موشك على لفظها بين ثانية وأخرى. ولأكثر من مرة فتحت فمي إلى أقصاه كي أستجلب الهواء إلى رئتيّ اللتين أضناهما ألم حارق.
في إحدى اللحظات، توقفوا عن إنزالي وانقطع صوت البكرة المعدنية، فحاولت أن أتمالك نفسي، أن أبذر في روحي اليقين بأني بخير، متضرعا إلى بارئي. عندئذ ألهمني وضعي المقلوب – يا للغرابة – القاعدة التي يتعين عليّ تطبيقها في تحريف الترجمة.
لم ألبث أن هدأت، وخف شعوري بالثقل في رأسي وبالهسيس في أذني، وميزت عيناي، وإن بصعوبة، درجات السلم الحديدي المغروزة في جانب من جدار البئر. لكن الحبل تحرك من جديد، وبدأت الهبوط إلى القاع، فازدادت الظلمة والرطوبة، وضاق تنفسي، وأحسست بألم حاد في كاحلَيّ كما لو أن شفرة بالغة المضاء تحزهما حزا. لم أملك إلا أن أطلق العنان للأنين، فرددت جدران البئر أصداء صوتي المكلوم. لم يكونوا يعبثون هذه المرة، فالهبوط مُطّرد. أيقنت أنهم صمّموا على إهلاكي، فبكيت بكاء حارا لم أبك مثله قط حتى عندما فقدت أعز الأحباب.
ولما لامس شعر رأسي مياه القاع الباردة، حبست أنفاسي من هول مجابهة المصير المحتوم. وبينما كان رأسي يغوص في الماء، تضرعت إلى ربي، وراودني الأمل في حدوث معجزة. تحت آخر درجة من درجات السلم الحديدي، كان يقوم مدخل النفق المفضي إلى دار في الحي العتيق. ألا يمكن أن يُقبل من هذا النفق، الممتد خارج حوض المياه، من ينقذ حياتي؟
أحسست بوجهي يغطس في المياه المعتمة، ليُعقب ذلك انكتامُ نفَسي، كأنما عشرات الأيدي الغليظة تضغط على عنقي تريد أن تزهق روحي. انتفضت محركا رأسي بكل ما بقي فيّ من قوة. لم أدر كم أمضيت من وقت أحرك رأسي، لكني أذكر أني كنت موشكا على الإغماء لحظة شعرت بجسدي يُرفع إلى أعلى، على نُواح البكرة المعدنية…….
وعندما استعدت وعيي، قادوني إلى مقعد مستطيل من خشب يقوم في قلب فسحة محفوفة بأشجار زيتون وارفة الظلال. ارتخيت فوق المقعد ألتقط مزيدا من الأنفاس، في هدوء مشبع برائحة الزيتون، فيما انصرف الجلادون إلى حيث لا أدري. كنت منهكا، لا يشغلني شيء سوى عبّ أكبر قدر من أوكسجين الحياة، عندما انبعث شخص من بين الأشجار. تابعته وهو يتقدم خطوة خطوة باتجاهي، لأميز فيه صاحبي العلوم بقامته الفارعة. كنت متحرقا لتقريع أذنيه بكلمة تشجب تخاذله. وقف على مسافة خطوتين مني، ثم باشر الحديث بوجه استعاد نضارته وإن غضّنته شحنةُ توتر:
– أعرف يا صديقي أنك حانق عليّ بسبب موقفي، لكنك قد تلتمس لي العذر لو رويت لك الوقائع من زاوية تجربتي.
صمت قليلا، وحين لاحظ أني أصغي إليه من غير اعتراض واصل:
– عندما كنت أتوقع في أي لحظة أن يقتلوني، فوجئت بهم يذهبون بي إلى منزل يشرف على ساحة واسعة.. أوقفوني وراء نافذة بطابقه العلوي، فارتعبت وأنا أرى مشهد تنفيذ الإعدام في رجالنا، لكن وقع الصدمة كان شديدا عليّ لما رأيت بنادق جنودهم تصوب رصاصها نحوك، فترديك قتيلا، لم أستطع احتمال أن أرى رصاص الموت يخترق صدر صديقي الأعز، فخارت ركبتاي وانهرت باكيا. وبعد أن تمالكت نفسي، حدثني قائدهم بشأن التعاون معهم مقابل الاحتفاظ برأسي فوق كتفي، فضلا عن حيازة منزلة معتبرة. كان العرض مغريا خصوصا وأني أحسست برغبة جارفة في الحياة، ورغم ذلك رفضت. صاح ضميري في أعماقي: «هل ستتورط في الخيانة يا مصطفى؟». لكن كبيرهم قال لي: «لا تنس أنك تراث إنساني باعتبارك عالما فذا، وخسارة أن تزهق روحك بمجرد ضغطة خاطفة على الزناد. ثم إنك لست استثناء بين نظرائك؛ فقد حرصنا على منح فرصة لكل علمائكم في مختلف التخصصات، وقد استجاب لعرضنا كثيرون ستكتشفهم مستقبلا بنفسك». والحقيقة أن يقيني تزعزع عندما فوجئت بأنك مازلت على قيد الحياة، وأقنعوني بأنك قبلت أن تقدم لهم خدمة كبرى، هي الكشف عن أسرار دولتنا.
قاطعته دون أن أشعر:
– أبدا، لم أقدم لهم سوى الوهم رغم أني عشت مثل تجربتك بتفاصيلها.
هرب من نظراتي بعينيه إلى الأرض وتابع:
– لم أعرف إلا الآن أنك كنت تخادعهم، لكن الأمر الذي مزقني أكثر وجعل مقاومتي تضعف هو لجوؤهم إلى استغلال زوجتي وابنتي الوحيدة في الضغط عليّ. لقد هددوني بالاعتداء على حبيبتيْ قلبي إن أصررت على موقفي. لكم حسدتك يا صديقي، عندئذ، على عزوبيتك…
لم أرغب في مجادلته، فمكثت صامتا، فيما استرسل في شرح صعوبة وحرج الوضع الذي وجد نفسه فيه، وهم يمسكون بروحه من أضعف نقطة فيها. ثم لاذ بالصمت هنيهة كأنما يلتقط أنفاسه، قبل أن يستأنف الكلام بصوت منخفض:
– صديقي العزيز، بمقدورنا أن نعثر على طريقة لخدمة وطننا من داخل زنزانة العدو..
لم أملك إلا أن أقاطعه على الفور:
– هل تضحك على نفسك؟!
– وطني يحتاجني حيا لا ميتا.
– هل أنت مقتنع بهذا الطرح حقا؟ كيف ستكون قادرا، مستقبلا، على عضّ أيديهم بعد أن تكون قد أدمنت على ما يقدمونه لك من لحم طازج؟ وهل تظن عيونهم تغفل عنك لتسدي خدمتك المزعومة للوطن؟
– صديقي، أعرف أنك بارع في الجدال، ولا أعرف كم سأحتاج من وقت كي أقنعك بوجهة نظري، لكن ارفق بنفسك، لقد كابدت اليوم تعذيبا لا يطاق، وهم ماضون في خطتهم لكسر إرادتك دون هوادة، وقد قال لي قائدهم بأنهم سيذيقونك ألوانا شديدة من العذاب، ولن يسلموك للموت قبل أن تندم على اليوم الذي ولدت فيه.
لم يكن لدي أدنى ارتياب في صدق مشاعره تجاهي، إلا أني كنت قد اخترت سبيلي المغاير تماما لسبيله، ولم يكن في نيتي أن أخبره بالخطة التي اهتديت إليها لمراوغتهم، تحسبا لانكشافها. لذلك تركته ينتظر ردي طويلا، فيما تظاهرت بالاستغراق في التفكير، لأنبس أخيرا بالموافقة أمام دهشته العظيمة.
وبينما كنت أتناول الفطور، في اليوم التالي، انثال على ذهني، بجلاء، حلمٌ رأيته في الليلة الفارطة: كنت جالسا إلى الطاولة المستديرة في قاعة المكتبة، أقرأ بصوت عال وأترجم، ومراقبون يسجلون حرفيا ما يصدر عن شفتي من كلمات. كنت قلقا أنجز الترجمة، وفي الآن نفسه، أفكر في الطريقة الأنجع لخداع الأعداء، شاعرا بأن كل المنافذ موصدة في وجهي. وفجأة، فيما أنا أقرأ عبارة مُدونة في هامش الصفحة، أدهشني اكتشاف أنني بصدد قراءة العبارة التي ستخلصني من هذا العبء الثقيل برمته. كانت تعلن كما لو كانت تخاطبني شخصيا: «إن وجدت نفسك مضطرا إلى إفشاء أسرار هذا الكتاب، فلا تتردد».
أخذت أكرر قراءة العبارة مرات، بصوت يزداد علوا ووضوحا في كل مرة، بينما المراقبون يحدقون فيّ باستغراب. ولما سألني أحدهم (كان يشبه ذا الشارب الكث) بنبرة محتدة: «ماذا دهاك؟»، ابتسمت وأنا أرد بلغة الكتاب السرية: «عقول الرجال هي مستودع الأسرار، لا بطون الكتب». على الفور انفجرت وجوه المراقبين بالغضب، كما لو أنهم فهموا ما تفوهت به، بل إنهم زعقوا في وجهي، في وقت واحد، وباللغة السرية ذاتها: «إن كان الأمر كذلك، فلِمَ تضيع وقتنا؟».
حدثت نفسي، فيما كنت أغسل يديّ وأنظف أسناني، بأن هذا الحلم رؤيا تحمل رسالة، وضج رأسي بالسؤال: «ألا يُحتمل أن يكون هذا الكتاب مجرد خدعة؟».
وحين التحقت بطاولة الترجمة، ابتدرني ذو الشارب الكث قائلا:
– لقد أخرتنا كثيرا يا سيدي الفاضل.. وبعد أن رأيت كم نحن جديون، فإني ألتمس منك أن تطرد من رأسك كل فكرة قد تغريك بالضحك علينا مرة أخرى.. فلو حدث هذا مجددا، فاعلم أننا سنخط بدمك كتاب العذاب.
صمت وعيناه تحدقان في وجهي، كأنما يترك لي فسحة لتخيل حجم العذاب الذي سيوقعونه بي لو…، ثم خاطبني بنبرة تخلو من الانفعال:
– سنغير طريقة العمل يا سيدي؛ سأختار فصلا معينا من فصول الكتاب، وستقوم بترجمته.
أمرني بأن أتلو عليه عناوين الفصول، ففعلت دون تحريف: مقدمة، الأسرار التاريخية، الأسرار الجغرافية، الأسرار الاقتصادية، الأسرار العسكرية…
لبث للحظة شاردا يفكر، قبل أن يقول:
– ستبدأ يا سيدي بالأسرار العسكرية. لا أحتاج إلى تكرار الوصية الذهبية: الدقة ثم الدقة.
خيل إليّ في الوقت الذي كان يتكلم فيه أني سمعت أصواتا بعيدة لطلقات رصاص.
استحضرت، في صمت، النظام التحريفي الذي خطر ببالي عندما كنت في أعماق البئر، معلقا من قدميّ ورأسي إلى أسفل. كان يتأسس على القاعدة العامة التالية: قلب التقديرات والأحكام رأسا على عقب، واستبدال الاتجاهات بأضدادها، وحذف صفر، من جهة اليمين، من كل مقدار أو نسبة أو مسافة. ومن غير تردد، رحت أترجم بانتباه شديد وتأن.
ولم أكد أكمل الصفحة الثالثة حتى أضحت الطلقات ملموسة أكثر فأكثر، بأصواتها المدوية الصاخبة التي تصم الآذان وترجف القلب. عندها، غادر ذو الشارب الكث المكتبة مهرولا. تابعت الترجمة جاهدا أن أكتم الفرحة المتفتحة بين جوانحي، فيما واصل المراقبان عملهما بجدية آلات غير آبهيْن بالحرب الدائرة على مقربة من أسوار القصر. غير أن نظراتي سجلت، رغم ذلك، اختلاجات شبه خفية كانت تُلم بوجهيهما، من حين لآخر، بل إن امتقاعهما فضح الرعبَ المعتمل في أحشائهما. ولم يلبثا أن ارتميا على الأرض وزحفا على أيديهما ورُكبهما باتجاه الباب الخلفي للمكتبة، حين تفجر الحائط الزجاجي فجأة.