وعلى الرغم من أن مدرسة الكتابة في المقهى عريقة عراقة الإبداع نفسه، أو عراقة المقاهي، لنقل، فإنها تظل عادة مدهشة بالنسبة لمن يحبون الاختلاء بكائناتهم أثناء الكتابة.
والكتابة في هذا لا تشبه إلا الحب؛ فالبعض يكثل وجود الشهود بعضاً من متعته، والبعض يفضل الانطواء على حبه. وكلا النوعين ينتج شخصياته؛ فثمرات الحب الصاخب، من الشخصيات المكتوبة في المقاهي صاخبة مثل أبطال هيمنجواي، وقد كان إرنست عميداً لمقاهي وبارات أوروبا وأميركا وكوبا، قبل وحيد الطويلة بزمان، ولم تكن الكتابة تحلو له إلا وسط الضجيج، لكنه كان يختلف عن وحيد في كونه يلتقط شخصياته ممن حوله في مكان إقامته، بينما يحمل الطويلة أينما حل، زوادته من شخصياته التي نطت فوق أمتعته عندما خرج للمرة الأولى من قريته بالشمال المصري إلى القاهرة، ولم تغادره في مقاهي تونس أو الدار البيضاء، وأخيراً حملها معه إلى قطر؛ وافترشت معه مقاهي سوق واقف، وضيقت عليه الخناق من مقهى لمقهى حتى انتهى من كتابتها في روايته الجديدة «أحمر خفيف» التي أرسل بها من هناك إلى دار «الدار» بالقاهرة.
لو أن أحداً من المجاورين لوحيد في مقاهي سوق واقف رأى هؤلاء المرافقين له لولى منهم فراراً. أما من يقرأ الرواية فسوف يعرف لماذا يتمكن وحيد من كتابتهم في المقهى؛ بل لماذا لا يغامر بالخلوة مع هذه الشخصيات المليئة بالصخب والعنف والبهجة أيضاً.
تبدأ الرواية وتنتهي بمشهد محروس المتمدد على سرير في مستشفى بالمدينة، من دون أن يتمكن الموت من الاقتراب منه. وبين إغفاءة وإفاقة ينادي على الأموات في بداية الرواية، فيظنونه قريباً من الموت، لكنه في الختام يتحول إلى النداء على الأحياء المتحلقين حول سريره!
الشخصية بحد ذاتها نموذج معتاد من أبناء الليل في القرى، يقابل الفتوة المديني عند نجيب محفوظ، ولا تستطيع عائلة أن تعيش مستورة ومهابة من دون واحد من هؤلاء، إن لم يكن من دمها، فمن المستأجرين أو المؤلفة قلوبهم بالصداقة والهدايا وعلاقات النسب، والفتوات درجات، منهم المتخصص في القتل وهو الأرقى غالباً ومنهم من يحرق أو يغرق أو يحش الزرع، ومنهم الأدنى منزلة وأخلاقاً: من يسمم البهائم.
محروس من مجرمي الصف الأول، وقد جعل وحيد من احتضاره أسطورة تذكرنا بقصة «اجمل رجل غريق في العالم» لجارسيا ماركيز.
لكن قوس الرواية يتسع لأساطير حياة محروس، الذي ظل يصارع قاتله حتى بعد أن انطلقت رصاصة أطارت كفه في الهواء، ليعيش ما تبقى من حياته بكف واحدة، مهاباً كما كان بيدين سلمتين.
يهيمن محروس على فضاء الرواية كقصة إطار تتفرع منها قصص وأساطير الشخصيات الأخرى: عزت أخذه حب المدينة ونسائها، وتحديدا حب ممرضات مستشفياتها، الذي لم يمنحه متعة الاستيهام والتشهي فقط، بل جعله خبيراً في كتابة الوصفات الطبية، التي منحته في النهاية لقب دكتور، ومعه صديقه الفناجيلي الذي يحمل له حقيبته ويدور معه على المرضى.
الفناجيلي أخطأه الموت وليداً، فراح يتحداه حتى وجدوه مرة لابساً كفنه، واقفاً أمام المقبرة يصرخ فيه: إن كنت راجل اطلع لي!
كثيرة هي التفاصيل أو بالأحرى الأساطير التي تولد من حياة هؤلاء البسطاء. وعلى الرغم من كل المقولات التي تؤكد أن الرواية فن مديني، تظل القرى تعطي رواياتها المتميزة.
وبعد تراكم كبير من روايات القرية في مصر (زينب التي يؤرخ بها بداية للرواية المصرية رواية قرية) استطاع وحيد الطويلة أن يجد لنفسه مكاناً. واتخذ من العجائبية والفكاهة ساقين تقف عليهما كتابته، في روايته السابقة «ألعاب الهوى» والجديدة «أحمر خفيف» التي أنهاها بقائمة المقاهي التي كتبت فيها وأسماء أصحابها، في تونس وقطر!