خالد البقالي القاسمي
صدرت عن مكتبة سلمى الثقافية ضمن سلسلة إبداعات رواية “كأنها ظلة” للمبدعة “سعاد الناصر”، الطبعة الأولى سنة 2019 بمطبعة الخليج العربي بمدينة تطوان بالمملكة المغربية، تضم الرواية بين دفتيها مائتان واثنتا عشرة صفحة، رواية المبدعة تضاف إلى المنتج السردي الإبداعي المغربي العربي لكي تسهم مع مثيلاتها في دعم الأبعاد الإنسانية الفكرية والثقافية والتواصلية، كما تسهم في نشر منظومة القيم النبيلة المنفتحة على الفن والجمال والحب.
لهذه الرواية رغم طابعها المونولوجي الواضح عمق ملحوظ يتجلى في الطريقة التي بنت بها المبدعة نصها، وكذلك الأسلوب الذي اعتمدته في الرؤية السردية الموجهة لأحداث الرواية. فالملاحظ على النص هو أنه بني استنادا إلى رؤية صوفية تمتح من الاتجاه المولوي الخاص بالقطب “جلال الدين الرومي”، هذا الصوفي الفارسي التركي الكبير الذي صرح بقوله: ” أنا مولود للعشق ” وأفنى بقية حياته في نشر المحبة والتسامح، “أندلس” الشخصية الأنثى البارزة في الرواية ترتبط بصاحب الطريقة المولوية بعلاقة تماه، فقد جمع “مولانا” بين المعرفة والعرفان، وكذلك “أندلس” جمعت بينهما في الرواية عبر تكوينها وثقافتها وفكرها، لقد كانت “أندلس” تستدعي التصوف والتحليل النفسي معا: “منذ أن وعيت نفسي وأنا أدرك…ص.56″، السؤال الأساس: ما هو القدر الذي استطاعت بواسطته أندلس أن تعي ذاتها؟ يتحدد الجواب بين ثنايا الرواية، وبالخصوص في الطريقة أو الأسلوب السردي الذي وظفته المبدعة في كتابة الرواية.
أسلوب السرد الموظف من طرف المبدعة يبرز واضحا من خلال العلاقة بين المدينتين التركيتين “حران” و “قونيا”. عندما طرح في الفلسفة الاسلامية مشكل التوفيق بين الدين والفلسفة انبرى محمد بن محمد بن طرخان الفارابي الفيلسوف للخوض في هذه العملية، والمنتج كان عبارة عن “آراء أهل المدينة الفاضلة”، وقد بنى الفارابي تصوره بتوظيف نظرية “الفيض” حيث تتعقل العقول ذاتها وفي كل مرة يفيض عقل عن آخر إلى العقل المستفاد ثم العقل الفعال، لقد اعتمد الفارابي في نظرية الفيض على مقولات الصابئة في مدينة “حران” الذين كانوا يعتقدون كثيرا في نظام الكواكب والأفلاك، وبما أن مدينة ” حران ” التركية ليست بعيدة عن مدينة ” قونيا ” فإن “جلال الدين الرومي” استوحى طريقة الرقص الصوفي التي قعدها ابنه “سلطان ولد” من نظرية الفيض التصاعدية ومقولاتها، وبذلك ظهرت رقصة السماح الصوفية الدائرية، إذ يعتبر الدراويش أن رقصتهم عبارة عن سفر صاعد، انطلاقا منه تقوى المحبة، ويقصى الكره والأنانية، ويصل الكائن الإنساني إلى الكمال. إن رقص التنورة أو الرقص المولوي إرث مجيد يتدرج فيه المشاركون حسب ترتيب محدد بصفات الراقصين وأعمارهم، وهم عندما يدورون في رقصتهم فإن هذا الدوران يؤدي إلى المفارقة والذوبان، وهنا بالضبط نفهم جيدا بأن الرقص الصوفي المولوي هو دوران حول النفس مع التأمل العميق، ومصدر الرقص هو دوران الكواكب حول الشمس، تماما كما هو مثبت عند صابئة حران، وبالضبط كما استلهمه الفارابي في نظرية “الفيض”، إنها رقصة السماح أو جوهر الروح وفيها يتم الدوران عكس عقارب الساعة مثل الدوران أو الطواف حول الكعبة، وهناك يكون القلب في جهة اليسار مقابلا للكعبة بنفس حركة الكواكب في دورانها، كل هذه المعطيات عبارة عن حفر في الخلفيات الثاوية في طبيعة السرد الواردة في الرواية، وهي في عمقها علامة الهوية الفنية الجمالية لهذه الرواية.
السرد في الرواية كان سردا شبيها بالرقص الدائري، رقص لولبي، وسرد لولبي، حيث حكايات تتناسل، وحكايات تتداخل مع بعضها البعض، نحس وكأن السرد يتناسل بواسطة سلاسل منتظمة، “أندلس” الشخصية البارزة في الرواية وهي تتماهى مع الفردوس المفقود تحكي حياة أبيها، ثم جدتها، ثم علاقتها بدراستها، ثم علاقتها بخطيبها “الطيب”، ثم تحكي حياة أمها…، هيمنة مطلقة، وكل هذا حكي عن الماضي، حيث كلما هم السرد بالتوقف عند الحاضر إلا وتصيبه الغواية فيسرع عائدا إلى الماضي لكي يلوذ به، سرد خطي مكثف لا ينقطع بواسطة أنثى، وسارد ذكر، كل ذلك استنادا إلى الماضي، فهو حكي للغياب، واسترجاع ما فات، جرح الذات وهشاشة الحاضر يدعوان إلى تمجيد الماضي بأفعاله، وشخصياته، وأشيائه. لقد استكملت “أندلس” عملية نحت الشخصيات، وتحديد ملامحها بواسطة السرد بالأدوار، لكل دور، ومن يحصل على دوره تتحدد قسماته بجميع معطياتها ويذوب في نسيج الحكي، ويتحول إلى مصدر ومنتج للحكي ومراكمته، وكل شخصية تسهم بنصيب وافر في إرباك القارئ، ووفق هذه الصيغة فإن الرواية تلغي اليقين بكون كل شخصية تحاول أن تتبوأ مقعد البطولة، إذ كل حكاية لشخصية لا تكاد تستوعب ذاتها تاريخيا لكي تتبوأ الصدارة، لأنه لو مكنا أحدا من الشخصيات من ذلك فإن العمل سيتم نسفه بالكامل.
لقد جمعت الرواية بين الدوران في الرقص المولوي وبين مفهوم التكرار، كلما استمر الرقص وعلت وتيرته كلما استمر التكرار، وعندما يستمر الرقص والتكرار يستمر السرد ويتنامى، فيتعمق الاختلاف ويزداد حدة، لأنه بواسطة الاختلاف الخالص والتكرار العميق يتحدد المعنى واللامعنى في الرواية، كما تتحدد هوية الشخصيات الروائية وتتدافع مصائرها، لقد كانت “أندلس” الراعية الملهمة لشخصيات الرواية تبحث عن الحقيقة التي تبنى على علامات مخصوصة استخلصتها من المعرفة والعرفان، إذ المهمة لديها لم تكن ترتبط بإعادة بناء الماضي فقط، بل كذلك فهم الواقع عن طريق التمييز بين الصحيح والخطأ، بين الجدوى واللاجدوى.
إن المسكوت عنه في الرواية هو سيرة “الطيب”، الرواية لم تشر إلا إلى محنته وعلاقته القوية بجده، سيرته التي هي المفتاح لم تتحدث عنها الرواية، إذ إن عمق محنة هذه الشخصية تكمن في أنها ظلت فترة طويلة قابعة في السجن بسبب يرجع لطبيعة عمله في المدرسة، هناك بالضبط كان على الرواية أن تساير إيقاع حركية الأستاذ لكي نستطيع الوقوف جليا على عناصر إدانته وإلصاق تهمة الاغتصاب والاعتداء به، لأن الموضوع يظل محيرا في معرفة سبب اختيار تلميذته له بإيعاز من أبيها دون غيره من أجل إلحاق الأذى به ونكبته بطريقة مجحفة، ولهذا السبب ضرب بين “أندلس” وخطيبها الطيب بستارة، هي في الخارج في حالة حيرة كبرى، وهو في السجن في حالة يأس وإحباط كبيرين، وكثيرا ما كان يخلط بين الأمور، فهو تارة يتغنى بأندلس الحبيبة، وتارة يتغنى بالأندلس المعلومة، مرة يتماهى مع الفرد ومرة أخرى يتماهى مع الفردوس المفقود.
وبسبب ممارسة “أندلس” للمجاهدة الصوفية أصابها الوهن فلم تصل إلى المطلوب، لقد بدا أن الحزن التصق بثيابها، واندس بين ثنايا أغطية فراش نومها، فعمدت عبر سردها إلى إطلاق سراح “الطيب”، وإطلاق سراحه عبارة عن صيغة بسيطة لا تتناسب مع هول الآلام التي عانى منها الجميع، خروج “الطيب” من السجن كان ينبغي أن يصاحب بضجيج كبير، ويبدو كما قلنا إن الساردة المشاركة “أندلس” ضاقت ذرعا بالموضوع وأصابها فعلا الوهن فعجلت بإطلاق سراح خطيبها دون توضيح التفاصيل أكثر لكي توقف السرد.
المبدعة عملت على الربط في الرواية بين العالمين الواقعي والافتراضي، حيث انتزعت الرواية من العالم الافتراضي الذي كانت نسبتها فيه لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بيد أنه في العالم الورقي الروائي دخل النص عالم المكن والمحتمل، إنها رواية جميلة تستحضر مجموعة من القيم، وتؤكد على العلاقات الأسرية الحميمية، كل هذا بواسطة بناء وتوليف موفقين.
……………….
*كاتب وناقد من المغرب