قيامةُ نهاد زكى التى قامتْ شِعْرًا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشهاوي 

كتبتِ الشِّعر، ثم هجرَتْهُ، ولمَّا عادتْ إليه بعد ثمانى سنواتٍ من الانقطاع، والعمل فى الصَّحافة، كانت نهاد زكى «كأنَّها القيامةُ» فى بعثِها ما كان قد ماتَ، أو قُلْ تلاشى، واختفى، وهو – فى الحقيقةِ – كان فى حال كُمُونٍ وصمْتٍ، لكنَّ الشَّاعرةَ لمَّا قَامَتْ قِيَامَتُها، كَانَت فِى حَالِ غَضَبٍ شَدِيدٍ، ووجعٍ أشدّ، فنجحتْ فى أن تكتُمَ غضَبَها فى النصِّ، وألَّا تكُونَ مُباشِرَةً فى وجعِها، ولم يظهر ظل هذا الوجع الحى على أرض القصيدة، فجاء ألمها أسطُوريًّا محمُولا على الإشاراتِ والرُّمُوزِ والعلاماتِ والإيحاءات.

وإذا كانتِ القيامةُ هى «يوم بعثِ الخلائقِ للحِسابِ»، فهى لم تُحاسب أحدًا، بل تركتِ النصَّ الشِّعْرى يقولُ مقاله، مُتَّكِئةً على أساطيرِها الشَّخصيَّةِ الصَّغيرةِ التى تخلُقُها على الدَّوامِ، مُؤمنةً بالآية القرآنيةِ «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ» ؛ لأنَّها تكتبُ ولا تخطبُ أو تُوجِّه، ولذا لم يتحوَّل نصُّها- كتابُها إلى نشيدِ وجعٍ صارخٍ بل إلى نشيدِ إنشادٍ للرُّوح فى تجلِّيها وإشراقِها.

راحت الشَّاعرةُ نهاد زكى تحدِّثُ ذاتَها بهذه الآية القرآنية: (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، وتُردِّدُ فى صمتٍ تارةً، وفى جهْرٍ تارةً هذا البيتَ للشَّاعرِ ابن نُباتة المصرى (686-768هجرية- 1287- 1366ميلادية): «قيامةٌ عند قومٍ وعند قومٍ قيامهْ»، مشيرةً إلى أنَّها ابنة القيام من تحتِ «الأنقاض»، والبدْءِ من الصِّفر الذى لا تراهُ نهاد زكى «نقطةً تدلُّ على خُلو منزلتِها من العدد»، أو «رقم يدلُّ على الرتبةِ الخاليةِ من الكميَّةِ، وعلامته نقطة»، بل زرعتْ فى منازلِ الصِّفْرِ أعدادًا كثيرةً، تحصدُ فى ديوانِها الشِّعرى ثمارَ أشجارِ هذه الأعداد، فبدأتْ من درجةِ الصِّفْرِ، التى هى نقطةُ البدءِ التى تُقدَّرُ بعدها الدَّرجاتُ، بعد أن كانتْ تتصوَّر أنَّها «صفرٌ على الشّمال أى لا تساوى شيئًا، قليلة النفع»، ولم تعُد صِفْر اليدين، بل كسبتْ أشياء كثيرةً.

ومن يقرأ شعر نهاد ذكى يدرك أنها لم تصل أبدًا إلى الصِّفْر المُطْلَق، أى إلى درجةِ الحرارة التى تنعدم عندها الطَّاقةُ الحراريّةُ للمادَّةِ، بل بعثت طاقتَها المختزنةَ، وحوَّلتها إلى نصوصٍ شعريةٍ تشرقُ شموسُها لها، ولمُتلقِّيها، ولم ينطبق عليها قول ابن حمديس (447 – 527 هـجرية/ 1055- 1133ميلادية):

«فأيديهمُ من كل ما طلبوا صِفْرُ».

«لأتوحَّدَ فى الضَّوءِ

لتكُونَ قيامتِى كزهُورِ العَبَّادِ

أتبعُ الشَّمْسَ فى كُلِّ لحظةٍ

حتى تأتينِى السكينة»..

 تكتبُ نهاد ذكى بجنُونِ الشَّاطحِ، وحسِّ العارفِ النَّائمِ فى النارِ التى صارت بردًا وسلامًا سيرةً ذاتيةً أو ترسمُ صورةً شخصيةً مُتخيَّلةً، لكنها تتقاطعُ أو تتماسُّ مع تفاصيلِ الحياة التى عاشتها، مُتأرجِحةً بين الشَّكِّ واليقينِ:

حتى أصبحَ جسدى خارطةَ طريقٍ.

كُلُّ علامةٍ فيها هِبةٌ ممَّن عبَرُوا من هُنا

وشربُوا قبلى».

نهاد ذكى فى ديوانها «كأنَّها القيامةُ»، «أيقظتِ الألمَ النائمَ»، ولم تكتف بإيقاظِه فقط، بل خلقتْ له لغةً ثانيةً وإيقاعاتٍ أخرى تناسبُ حياته الجديدة، حيث صار يستوطنُ بيتًا جديدًا من جسد الشَّاعرة، له تاريخُه وأبجديتُه، وهذا الألم مكتوبٌ بجسارةٍ وجرأةٍ، وفيه من التخييل البعيد الكثير الذى يقف أمامه المرء حائرًا ومندهشًا، لطزاجةِ البلاغةِ الجديدةِ، ونحت عوالم عجيبة وغريبة تتوازى مع لا شاعرية أحلامِ النَّومِ واليقظةِ، حيثُ العنف والغضب والصخب، الذى يراهُ، أو يحسهُ من يقرأ النصَّ: «اعتدتُ أنْ أرى أجسادَ موْتَى تطرَحُ ثِمارًا ناضجةً جاهزةً للقضْمِ.

هياكلَ عظميَّةً أنبتتْ أشجارًا

كأنَّها القيامةُ».

شعرية نهاد ذكى مفاجئة من فرط عجائبيتها، وربما هذه الغرائبية أتت من مخيلةٍ بدائيةٍ متوحشة، تئنُّ تحت وطأة الاحتيال والخديعة، حتى إنَّ الشاعرةَ لا تبحثُ عن عاملٍ مساعدٍ، أو رافعة للحُزنِ، أو مزيل للألم؛ لتستردَّ أبديتها بنفسها، ومن فرط اليأس تنحنى: «ليمرَّ البحرُ من فوق رأسِى»:

«خلاصِى حملتهُ فى بطنِى

كمن ابتلعتْ نفسَها».

ولو أردنا رسم بورتريه لنهاد ذكى؛ فسنجد أنها حاولت تلخيصَ أو تجريدَ ذاتها داخل النص الشِّعرى الذى تكتبُه، تهتدى بالنُّورِ، وتقتفى أثر الرائحة، أينما كانت قريبةً أو قصيةً، «تفتحُ العالمَ أمامها / مثل كتابٍ خُطَّ بالحِبرِ السرِّى»، تسيرُ «بمُحاذَاة الضَّوءِ»، تترجمُ الرمزَ داخلها، مدركةً أنَّ النارَ تأكلُ «أطرافَ حاملى المعرفةِ / كأنَّ على كُلِّ ناسكٍ أن يحترقَ أَولًا / بنارِ جحيمهِ / قبل الصُّعودِ إلى اللانهائىّ»: «أحبالٌ سُريَّةٌ كثيرةٌ تلك التى قطعتُ

كى أحافظَ على وحدتى فى العالم.

لا أريدُ أذيالًا لخيبتِى

لا أريدُ لرحمى أن تتورَّطَ فى الخلْق

كما تتورَّط الآلهة».

■ ■ ■

ونهاد ذكى شاعرة بصيرة، ثاقِبةُ النَّظَرِ، ذو ذهن حاد، وعقل متقد، ذكيّة، كأنها أبصرُ من زرقاء اليمامة، التى من بعيد، وتحدس بالآتى، تفطنه، وتعلمُ به، لتمتها بقوة الإدراك؛ كأنها تستعيد بيت الحلَّاج: «فـإذا أبصرتـَنى أبصرتـَهُ / وإذا أبصرتـَهُ أبصرتـَنـا».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر في جريدة المصري اليوم 

مقالات من نفس القسم