قنينة خمر وصياد – ليس مضطراً أن يبكر للصيد غداً

موقع الكتابة الثقافي writers 138
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فاطمة قنديل

-1-

سأقنع البائع حين أشتري عشر زجاجات من البيرة بأن لدي أصدقاء ينتظرونني في المنزل، أنا وزوجي، زوجي الكسول الذي يرفض أن يذهب ليشتريها بنفسه. حجة لا أستطيع أن أكررها كل مرة تدفعني إلى تغيير أماكن الشراء حتى لا أؤكد فكرة السكيرة عند البائع. البيرة الهشة المرحة تعري أعماقها الفوارة على السطح، فأتأمل رحلة الفقاقيع الدءوب بين السطح والأعماق.. يمكنك أيضا التحكم في الفوران منذ البداية إذا أملت الكوب قليلاً وسكبتها ببطء.

تمكنني البيرة من رسم صورة موازية لزحام كامن في وفرة الزجاجات وفي الفوران، ثمة موسيقى أيضا وأحاديث تقطع استمرارها، ناس يعدون الأطباق ويدخلون المطبخ بحرية. لكي أطمئن إلى اقتناع البائع أثبت نظرة نشطة في عيني، أخاف ألا أستطيع الحفاظ عليها لذا لابد أن أبدو متعجلة وأن أطلب منه إعداد الزجاجات حتى أتم شراء شيء آخر من محل قريب. حين أعود تكون النظرة قد بدأت في التهاوي ويبدأ التواطؤ بيننا حين يضع الأكياس في كيس بلاستيكي أسود كي لا يشف عما فيه.

-2-

شراء النبيذ أكثر تهديداً ويحتاج إلى استراتيجية خاصة، زجاجة نبيذ واحدة تكشفك لأنها تعني أن الجلسة لن تزيد عن شخصين، أن ثمة حميمية ما يتم الإعداد لها، يتطلب هذا جهداً مضاعفاً حتى لا يتصور البائع أنني سأشربها وحدي فيضمني إلى قائمة من يطلبون منه ربع براندي ويتجنبون النظر إلى عينيه. التدرب على ثبات نظرة خالية من الانفعال ثم اختيار أيام بعينها كيوم الخميس، يمكنني من رسم صورة موازية لزوجين في ليلة الإجازة، يعتمدان على زجاجة واحدة لإذابة أيام الأسبوع قبل الدخول إلى الفراش، ستستمر الصورة في عيني حتى عودتي، يكون التخلص من نظرة محايدة مجهداً لأنها تسربت إلى الداخل بشكل ما، أستغرق أكثر من نصف الزجاجة حتى التخلص منها وبداية صنع الشخص الآخر الذي يجلس بجواري صامتاً، كتلة دافئة بجوار قدمي، لا يحدق في، يستمع إلي باهتمام ثم يهتز كسرير طفل حتى ينام.

-3-

صداقتي بالنبيذ صداقة حديثة، حين تمكنت من تصنيف مشاعري في خانة الحب، بدأت صداقتي بالبيرة والويسكي والفودكا،، لم أصادق الجين أو الكونياك يمكن أن أشربهما لكن بوصفهما مدعوين على مائدة، تتبادل معهما الحديث لأنك تريد أن تصدر لجماعة ما صورة الشخص الرحب الذي يتنقل كطائر مرح من بقعة إلى أخرى دون أن يجبره خوفه على التحليق النهائي.

الجين يختلف عن الكونياك، مصمم لسيدة راقية، لابد أن تصاحبه سيجارة من النوع الفاخر، وربما ولاعة ذهبية، وحديث عن آخرين. لا يمكن أن تشربه إلا بالتونيك ونصف ليمونة مشقوقة ومرشوقة على حافة الكوب، تنز ماء عند أية لمسة. حتى تكتمل الصورة لا يمكن تجاوز الكأس الثانية، بل عندها تحديداً لابد أن تبدأ الأهداب في التهدل وتبدأ معها نصف النظرة المنسجمة مع ابتسامة تحتفظ بحدودها حتى آخر السهرة.

-4-

لم يتجاوز الكونياك معي حدود كأس الافتتاح، كنت أبتلعه مرة واحدة وكان نفاد الكوب لا يعني شيئاً لأن الحرارة الطافحة من الداخل تجبرني على الاستغراق في زمنها منذ البداية وحتى ذوبانها في الحديث.

-5-

صداقتي الحديثة بالنبيذ بدأت منذ اكتشفت أنه البديل لجسد يشبه كرة، قذفتها فيما مضى فظلت تتواثب فوق الأرض وأنا أتابعها، متوهمة أن نهاية التواثب هي السكون، لكنها ارتطمت بجدار لم ألحظه في انشغالي بمراقبة اللعبة.

النبيذ الأحمر جسد ليس أسود لكنه أيضاً لا يشف عن شيء. لا يقبل أن تخلطه بشيء. إما أن تقبله كما هو أو ترفضه نهائياً. أية نقطة ماء تدخله ـ حتى إن كانت على كأس لم يتم تجفيفه ـ إهانة له. كسر لهارمونيته وانكفائه على ذاته. البقعة الحمراء التي يتركها دائماً في باطن الكأس تدل دائماً على حضور كان على ذاكرة. حتى إن كانت في حدودها الأدنى: النقطة، إلا أنك لا يمكن أن تمحوها إلا بغسلها.

يجب أن أفترض منذ الآن أن الجدار موجود، وأن اللعبة ليست في تأمل قفزات الكرة وإنما لضربها في الجدار والإختيار السريع للموقع الذي سترتد إليك فيه لتضربها مرة أخرى.

-6-

كان الويسكي دائماً في الصدارة، الأربع زجاجات التي أشتريها من السوق الحرة بعد عودتي من السفر مساحة اختيار محددة لم يدخل النبيذ فيها حتى على سبيل الافتراض، سيفرغ النبيذ في جلسة واحدة ولن ينسجم مع استثناء السفر.

يتيح لي الويسكي أياماً طويلة لأراقب نفاده، بخبرة تكونت لدي عرفت أن زجاجة الويسكي ستستغرق أسبوعاً حتى تنفد، كنت أبتكر الحيل لمواجهة تهديد النفاد كأن أشربه (سك) مثلاً، لكن تهديداً آخر كان يبرز حين كنت أضحي بتمرير المذاق على لساني وإلقائه في الجوف، تهديد طمس الملامح، ما يجعل من الويسكي منطبقاً على الكونياك، أدركت أن قطعة ثلج واحدة تمكنني من استخدام كلمة أنيقة (On the rocks) تسمح بدخول سيدة لا تشبه شاربات الجين لكنها لا يمكن أن تكون أيضا عاهرة تطلب ربع براندي من البائع في آخر الليل، ستتحرك صورة السيدة بين الإثنتين، لن يمكنني القبض عليها، الآخرون أيضا قد يستسهلون ضمها إلى أحد القطبين، لكن شبهة تعسف ستظل تؤرقهم.

لا يحدث الإنسجام الحقيقي بيني وبين الويسكي إلا بقطعة ثلج، أدركت أن قطعة الثلج تجعل الويسكي ينسجم مع ذاته، مع حنينه إلى بلاده الباردة، كسائح يضطر إلى أن ينطق اسم شارع بعربية ودودة مكسرة، كي تدله عليه.

-7-

بين الويسكي والنبيذ كنت أهرول، لكنني كنت أكثر انحيازاً للويسكي، لم تجمعني جلسة إلا وكان الويسكي ما أطلبه أولاً، ينسرب معه إلى داخلي تعال على جماعة شاربي النبيذ، خصوصية ما، إصرار داخلي على ملاقاة الوجه الآخر في نهاية السهرة، الوجه الساخر الذي يجعلك تنسل إلى دورة المياه لتفرغ تعاليك جرعة.. جرعة، تكتشف أن الآخرين كانوا يبصرون هذه اللحظة في كأسك الأولى الشفافة، تجدهم قد أعدوا لك القهوة كرداء أسود يسترون به عريك، وترى جسدك يتعثر في كلمات التعاطف، يلقونها مرة واحدة بين قدميك.

-8-

ظل الويسكي رفيق الوحدة بعد العودة من السفر، ظل الويسكي يشف عن جسدين، جسد لم يفكر عند رحيله في صورة فراش الفندق، بخبرته كان واثقاً أنه فراش نظيف بملاءات بيضاء مشدودة، وأكياس وسائد زائدة في الرف العلوي من الدولاب، والسرير به أزرار كثيرة، سيمضي بعض الوقت في اكتشاف أيها للنور وللتليفزيون وللتكييف…إلخ، حارس الفندق لن يجهد نفسه بالبحث عنهم، موجودون، غير مرئيين، يمنحونه أماناً محسوماً خارج مسئوليته، تحرر مؤقت من مسئولية صنع الأمان، على مقاس أيام غربة، حيث دال الغربة مستمتع بالطفو على مدلوله وواثق أن الزمن القصير سيرفعه كطوق نجاة بعيداً عن أعماق مدلوله.

جسد يعود إلى أشيائه، يمد يده بعشوائية إلى زر الأباجورة، يعرف من الطارق من إيقاع الدقات، وفي تمايز الجسدين ينسرب الويسكي مثل لحن قديم وضع له الموزع خلفية إيقاعية مرحة، حين تصل زجاجة الويسكي إلى ثلثها الأخير يختفي الإيقاع، يعود اللحن الأصلي الذي لابد أن تشربه بتؤدة وحرص، والذي يضع مقاومتي في اختبار صارم، يراقبها بعين لا تطرف وهي تنهار شيئاً فشيئاً، الحرب الصامتة التي لا تحسم لصالحي أو لصالح الزجاجة، مصيرها الذي حددته ومسئوليتي عن صورة الضحية في زجاج لم يعد يصلح سوى للانكسار.

ليس الخوف من الموت هو ما أتحدث عنه الآن، لكنه الخوف من النقطة التي تبقى دائماً في زجاجة الويسكي بعد فراغها، والتي مهما حاولت تصفية الزجاجة لن تعثر عليها، ستفاجئك نقطة الويسكي إذا احتفظت بالزجاجة ثم أملتها بعد شهور بحضور جاهدت في تصفيته، قد أشربها وأنا أعرف أنها لن تؤثر في، قد أتركها كما هي، لكن مفهوم الضحية سيستدعي مفهوم الجلاد، سأراهما معا، وتكون دلائل الجريمة دون جدوى سقطت بالتقادم.

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project