البشير الأزمي
جدتي التي لم تعد قادرة على لضم الإبرة، نادت علي بصوت خفيض، لأن لا قدرة لها على رفع صوتها بعد نزلة البرد التي حصلت لها مؤخراً، فسحت بين رجليها وطلبت مني أن أقعد. اقتربتُ منها ونظراتُ أمي تلاحقني. كانت أمي تعرف أن جدتي عندما لا تجد من يتحدث إليها أو يصغي لحديثها المكرور، تستدعيني أو أحد إخوتي لنجلس إليها، حتى ولو لو يكن لجلوسنا داعٍ. طلبت من أمي أن تناولها مُشط الصئبان، لأنه قادر على التقاط ما يمكن أن ينفلت من المشط العادي من قمل أو صئبان. حاولت أمي أن تخبرها أني زرتُ حلاق القرية أمس، وقصَّ شعري، وساعدتني في غسله، وأنه لا أثر للقمل أو الصئبان في رأسي الآن. لم تقتنع جدتي بكلام أمي. ألحَّت عليَّ أن أقعد، رفضتُ أول الأمر وأنا أحاول أن أعيد على مسمعها ما قالته أمي قبل حين. باغتها كلامي، غارت عيناها وانعقد لساني. قلتُ لها إني اغتسلتُ أول أمس، قلت ذلك وأجبرتُ نفسي على الانصياع لأمرها. وأنا أحاول إقناعها لانتظار مهلة قصيرة حتى تعود أختاي من سقي الماء وتختار إحداهن أو كلتيهما وتمشط شعريهما وتعد الصئبان والقمل كما اعتادت أن تفعل وهي تأخذها بسبابتها وإبهامها وتضعها على ظفر إبهامها الأيسر وتضغط عليه بإبهام اليمنى لِتَتَمَلَّى بالصوت الذي تحدثه، ثم تمسح إبهاميها بالمنديل الذي تستعمله لِنَفِّ أنفها بعد كل عملية نشوق، وتتابع عملة المشط. وهي تعد حصيلة ما مسكت .
أمي منهمكة في توضيب المنزل، وفي نفس الوقت، تتابع حركات جدتي في تأفف ظاهر وهي تحرك رأسها يمنة ويسرة وتتمتم بكلام غير مفهوم. من حين لآخر أتململُ في مكاني سعياً أن أنفلتَ من قبضتها وهي تشد على رأسي حتى تستطيع الإمساك بواحدة منها. تَتَهَدَّلُ يداها، يسقط المشط، وتبدأ سمفونية الشتائم. أخفي ضحكتي في صفحتي يديَّ، وأنصاع لرغبتها.
تتحدث جدتي عن أهل القرية؛ عن الأحياء منهم والأموات، تعد من مات وتذكر أسماءهم، أكثر من عدتهم مازالوا على قيد الحياة. أمي تتظاهر بالإنصات إليها. وكلما حاولتُ، أنا، أن أُذَكِّرَ جدتي بأن أكثر من ذكرتهم مازالوا على قيد الحياة تشد على رأسي بقوة، وتأمرني بالصمتِ والإنصات، مذكرة إياي أن على الصغار أن لا يتحدثوا أمام من يكبرهم عمراً، وأنني أفوِّتُ عليها فرصة الإمساك بالقمل والصئبان.
اليوم عند عودتي من المدرسة، أخبرتُ أمِّي وجدتي بزيارة طبيب المدرسة. طلب منا المدير أن نقف منضبطين في الساحة. صححت أمي ما قلته، مشيرة إلى أن من زارنا لم يكن طبيباً بل ممرضاً. المهم أن الممرض كان يستقبل التلاميذ واحداً بعد الآخر، بعد أن ينادي المدير على اسمه، مستعيناً بالسجل المدرسي. ندخل إلى حجرة خصصت للعلاج، يفحص الممرض رؤوس التلاميذ، ويشرع في ضخ سائل على رؤوسنا مستعيناً ببخاخة.
قالت أمي إن هذا الدواء سيعجِّلُ من شفائنا، وسيتم القضاء على القمل والصئبان قريباً. لم تقتنع جدتي بما قالته أمي ، ورفعت يدها لامسة السبابة بالإبهام، وهي تقول :” لا دواء للقمل والصئبان غير هذين”.
ماتت جدتي وأطفال القرية مازالوا يشتكون من القمل والصئبان، والممرض يزور مدرستنا نهاية كل شهر، يرش على رؤوسنا بمضخة سائلاً يترك رائحة كريهة طوال اليوم، وهو يردد:
” هذا الدواء له فعالية كبيرة، استوردته الدولة أخيراً.. سنقضي على القمل والصئبان، أكيد”.. وتعلو ضحكاتنا نحن التلاميذ، ونشد بإبهامنا وسبابتنا على أنوفنا، وأرفع أنا السبابة والإبهام وتتعالى ضحكات التلاميذ.