حسين منصور
1
جلست أمي تتذكر الأمراض التي لبست أجسام إخوتي واحدةً واحداً، وعندما سألتُها عنى قالت: “أربع سنوات في الحمى”، ثم أخذت تحكى كيف كنت أطلب الفاكهة في غير أوانها.
أذكر أن أمي كانت تأخذ أختي الصغرى تدور بها وكيسها فارغ، ثم تعود من السوق بلا مانجو، المانجو طلبته أختي في أوانها.
2
بعد كتاب سيدنا “قنديل” وضعت اللوح في الطاقة التي تحفظ ضفائر أمي، كانت جالسة، والكانون نار، سألتها:
ـ متى سنأكل؟)
ـ عندما يطيب اللحم.
قلت فرحاً:
ـ ومتى يطيب؟
ـ العب حتى أنادى عليك.
ركبت عود الحطب، وخرجت إلى الشارع، جريت، جريت، جريت، وعدت:
ـ هل ناديت يا أم؟
ـ العب حتى أناديك.
لويتُ عنق حصانى، ضربْتُ، ضربْتُ، ضربت، ضربْتُه حتى انكسر، ثم عدت، فلم أجد غير نار الكانون، أطفأها الماء؛ فجلستُ جنب أمى التى لم أعرف ماذا تنتظر.
3
ربابة، ودُف، ومدَّاحة تنشد:
(سعيد اللى يصلى على محمد)
قصدوا بابنا، والعيال بزفونهم، اليد فى اليد، والأرجل حافية، من حارة إلى حارة، والقروش تدق طبق المدَّاحة كل حين:
(افرح يا قلبى وامدح الحبيب)
أمسكتُ بآخر يد؛ فأسرعتْ أمى وأخذتنى من يدى، وحفنتْ من ملح المدَّاحة وذرته فى العيون.
تركنى العيال، وأنا من شق الباب أتابعهم حتى اختفوا في الدرب الجديد، وأقطِّع البكاء كلما نظرتْ إلىّ أمى، وهى تعلق كوز الذرة الأحمر على باب الدار التى التصقت بواجهتها بقايا من جير قديم، ودجاجات الجارة تنكش فى آثار تنجيد مرتبتنا القديمة.
4
عندما أسر إليها أنه لم يقبل امرأة أبداً؛ سكتت؛ حفظتْ السر، وفى منامها أخذ يرسل إليها الفراشات، تمسك الواحدة بجناح الأخرى، يطفن بوجهها وشعرها؛ فصحتْ تلملمها من فوق وسادتها قُبلة، قُبلة، وبحثت عنه ؛ فلم أجده .
في الصباح سألته مداعبة:
ـ متى آخر مرة قبلت فيها امرأة؟
فهمس:
ـ أنا لم أقبل امرأة أبداً
فنظرت إليه صامتة وهى تبتسم .
5
أعرف شخصاً كانت أمه تخاف المطر وتخاف البرق، وصوت مفاصل باب الدار إذا دفعته الريح.
ذات ليلة جلست الأم تتلو وِردها: ياولدى! لا تخرج فى المطر! يا ولدى! احذر الليل! ياولدى! لا تأمن وجه الريح!
وبينما الأم تلو، والولد يومئ حفظاً هبت ريح، حملت الابن، ولصقته – ككائن من ورق – على الستارة التى طرّزتها الأم بيديها، تغدو النسمات ترعشه، وتميل به نحو فضاء الشرفة، وتروح.
6
ولما برد خده استيقظ، بسرعة خرج، قضى اليوم ينظر إلى كفوف البنات كلهن؛ عله يتعرف على الكف التى تمر على خده فى الليالى الباردة فلم يستطع ؛ فعاد إلى نوم مبكر، كى يأنس بالدفء قدر ما يستطيع.
7
أدركت جدي وهو فى الثمانين، كانت لحيته بيضاء، وسِنَّتُهُ، وشعره الذى تخفيه العمامة، عيناه خضراوان، كلون “الكرنبة”، ووجهه ندىَ كوجه المسيح، كان يصحو مع الفجر يصلى، ويرتل، ثم يجلس ينتظر الشمس.
كان يعلمني (هذه الشمس) ويبتسم عندما يشرب، ويعلمنى الوردةَ، والسماءَ، والقمرَ، والنجومَ (مصابيح منثورة فى جو السماء) ويفرح بالمطر، ولما رحل كان يبتسم لشىء لا نراه .
كبرت، وإذا أهدتنى حبيبتى وردة وضعتُها فى جيبى هى دائماً تغضب إذا لم أنظر إلى وردتها، وإذا قلت أن ” فاتن حمامة” ليست جميلة، ولما أخلو إلى نفسى أنظر إلى الوردة هى نفس الوردة التى علمنيها جدى، وكل صباح أسأل:
ـ أهى نفس الشمس التى كانت تشرق على وجه جدى فيبتسم ؟!
8
يحكون عن جدتى أنها كانت إذا صحت من نومها تدور على منافع الدار (صباح الخير يا رحاية !) وتملس على رأس الفرن، وتنفض التراب عن الغربال، (إصَّبح بالخير يا فاس) وتميل على المحراث الكائن جنب الفرن (يا وش الخير) ثم تكنس الدار والحارة، وتطلق البخور، وتنادى على الطيور (يا داهود) فيأتى الديك الأحمر الكبير (عسل عسل عسل) فتأتى البطة وصغارها، وبصوت من لسانها (طق طق طق) تنادى الكتاكيت ؛ فتلقى إليهم الحب، وتصب الماء فى المساقى، وتضع الفطور لجدى الذى مازال يرتل، وإذا رأت “عِرْسَة” زغردت، ونادتها (يا عروسة ابنى) كى لا تأكل من طيورها شيئاً، ثم تجلس جدتى على عتبة الدار تضفر شعرها الذى تفوح منه رائحة الحنَّاء وتغنى.
9
حكتْ أختي الكبري عن نسمة حركت صدر جلباب، أمي وخرجت من طوقه، وظلت أمي تنادينا واحداً واحداً كل باسمه، ثم نامت تكاد تبتسم .
لما ماتت أمي لم أكن بالدار، دخلتُ عليها لمستُها من فوق غطائها؛ فنفذتْ برودة إلي عظامي – أخيراً سكن الروح المنهك واستراح، لن تفزع بعد اليوم حين يدق المطر علي الشباك، أو ينطفئ فتيل المصباح، أو تفرغ “المَشَنَّة” من كِسَرِ الخُبْزِ ـ دخلتْ أختي الوسطي، كشفتْ وجه أمى، وقبلتْها؛ فتجاسرتُ وقبلتُ جبينها، كانت مجرد نائمةٍ، غطيتُ وجهها وجلست أبكي . أمى كانت خوّافة، تري هل خافت أمي عندما جاءها ملك الموت؟
10
في حُلم ولدي جناتٌ، وقصورٌ ولآلئُ، وحورياتٌ تملسن علي شعره، وجنياتٌ تقبلن شفتيه الدقيقتين ؛ فيبتسم، وأقبله فأذوق مابقي من عسل علي فمه، وأمه تضمه وتقول (يضحك لي)، ولكن تختفي ابتسامته عندما يفتح عينيه؛ فيرانا، وينظر إلي أمه نظرة لومٍ ؛ لأنها أغضبتْ حوريَّاته فذهبن بعيداً.




