قصص

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قصص : طارق إمام *

صانع الصور

لا يذكر المُصوِّر العجوز متى استغنى عن عينيه تماماً ، مكتفياً بحدقة الزجاج ، و بصوت    "الفلاش" الأليف الذي كان يخبره مرةً بعد أخرى أن مهمةً جديدةً قد انتهت .

الزبائنُ لم يلحظوا شيئاً . لم يدر بخلدهم أن عينه اليُمنى المفتوحة حدقةٌ عمياء ، بئر ظُلمةٍ يرقد فيها الخواء .. و أن العينَ اليُسرى المغلقة دائماً كي لا يهتز المشهد ، ربما ترى أفضل .

المُصوِّرُ العجوز لا يذكر من أيامه سوى لحظة ولادته . لا يزال يسمع صرخةَ الحياة  وهمهمات الأهل و قطرة عرق باردة سالت من جبين الأم على جسده قبل أن تتوجه في اليوم التالي إلى مقبرتها.

شاخ فجأةً ، كأن الحياة لم تكن .

تعوَّد أن يتأملَ الظلمةَ و يفكر : لو جرب الناسُ التحديقَ في العتمة لن يشيخوا ، لأنهم سيحتفظون بأعينهم فترةً أطول .. لن تكتظ ذاكرتهم بالضوء الذي يسيل في لحظة كطعنةِ برق ، ليُغرِق غرفَهم .. و يترك تاريخهم مثل وعاءٍ فارغ .

في قرارة نفسه أيقن أن الصباحَ لعنة من يستيقظون مبكراً .. و أن المساءَ وداعٌ ثقيلٌ غير أنه يليق بيقظة حبٍ منسي ، بأرصفةٍ تُبدِّل أماكنها .. و بأثرِ وردة .

كان مديناً للظلام بكل شيء..على الأقل لأنه شاهد ماضيه في حلكته ، غائماً بلون “السيبيا” .. وغامضاً ، كزائرٍ لم يأت .

حبةُ العَرَق القديمة لا تزال ترقد بين عينيه .. ندبة خافتة تؤلمه كلما  لامسها كأنه وُلِد للتو .

لم يكن يخشى الموت قدر ما كان يخشى الحياة .. فكلما مات أحد زبائنه كان شبحه يتسلل إلى غرفة التحميض ، يسترد صوره ، و يترك بدلاً منها ملابسه التي لن يحتاجها في الآخرة .

هكذا تحول المكانُ يوماً بعد آخر إلى دولاب ملابس ضخم ، بروائح الأنفاس المخزونة ، ببقايا الشهيق و الزفير لبلدةٍ كاملةٍ تحت الأرض .. ليكتشف المُصوِّرُ العجوز بحسرة أن المكان الذي أعده ليكون مقبرته ، لم يعد يصلح سوى للحياة .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

لأنه لم يعد يندهش

 

اليوم

عندما استيقظ كان البحر قد تسلل إلى غرفته .

وجد نفسه يفتح عينيه من نومه وقد غمره الملح ، و لم يُصدِّق في البداية أنه يرى تلك السمكات التائهة التي راحت تدور حول نفسها على البلاط و على جسده .

لا تطل غرفته على البحر مباشرةً . يفصلها عنه شارعان . هناك شيء غير عادي  إذن . كانت مراكب ورقية أيضاً قد احتلت غرفته ، خمن أنها لعشاق صغيرين ، و بمجرد أن أفاق أدرك أنه لو مكث لبضع دقائق أخرى سيغرق على سريره .

كان يبدو الآن شيخاً متوحداً مندهشاً بعض الشيء ، لكن بعينين ميتتين لرجل لم يعد يملك إلا الذكريات . بالأمس تجول كثيراً في المدينة ، حاملاً الكاميرا الفوتوغرافية العتيقة . التقط صوراً كثيرة ،  وبتحميضها وجد نفسه يواجه مدينةً أخرى ، بالأبيض و الأسود . و لأنه لم يعد يندهش ، فقد خمَّن أنه صوَّر ما أراده و ليس ما رآه .. و صدَّق ذلك باستسلام ، كأن عدسة الكاميرا المصمتة لم تكن سوى عينيه .

 

 

أمس

فجأة تغير هواء المدينة . الأبراج الشاهقة في الأحياء الراقية و ومكعبات البيوت الفقيرة المتلاصقة في المناطق الفقيرة ، كلها اختفت و عاد الخلاء كما كان قبل ستين عاماً . بقيت فقط البنايات القديمة محتفظة بواجهاتها التي أخفى البحر ألوانها تاركاً ملحه ينام بين ثناياها .عادت النوافير التي اندثرت إلى الميادين ، و بدأت الأشجار تبرز على جانبي الشوارع مخترقةً طبقة الإسفلت الهشة . كان المشهدُ مثيراً .. حركات دائبة تبدأ بعدها الفروع في الظهور قبل أن تبزغ تدريجياً السيقان و تنتصب .بدأ القار يتجعد لتتعرى الشوارع من دكنته و تعود مبلطةً كما كانت ذات يوم بعيد .. ثم راحت تضيق من جديد . اختفت لافتات النيون و سقطت أفيشات الألام الحديثة لتحل محلها أخرى بوجوه خاصمها الضوء الآن .حتى الناس لم يجدوا الوقت لينهشوا أو يرتعبوا مما يحدث ، فبمجرد نزولهم للشوارع تغيرت ملابسهم .بناطيل الإناث الضيقة صارت تنورات واسعة ، و شعورهن القصيرة المصبوغة استطالت لتنسدل متموجةً على أكتافهن . . و اكتمل كل شيء حين اختفت الألوان فجأةً و اكتست المدينةُ كلها بالأبيض و الأسود .

 

” لم أندهش ، بينما ألهث بالكاميرا خلف كل ذلك .. لأنني صرت أرى المدينة التي أعرفها .. أنا المُصوِّرالفوتوغرافي العجوز الذي لم يعد يجد ما يفعله .. و في ركن بعيد ، على دكةٍ خشبية قبالة الكورنيش ، تظللها شجرة كافور ضخمة .. وجدت حبيبتي جالسة ” .

 

ـــــــــــــــــــــ

ملاك أسود

يسقط ، مع الظلمة ، في الليل . قطعة شاحبة من جمال مظلم ،معتم . يسقط كأنه الليل نفسه . ويتقافز بين الأسطح ، بدكنته ، التي لايمكن أن يكتشفها أحد . يتقافز بخلوده ، خلوده الأسود ، الحالك ، الذي لم يتمناه . و كعادته يتلصص ، على حفنة الفانين ، الفقراء ، أصدقاء التراب . عليه يمشون و تحته يدفنون . ليس ملاك موت . و ليس شيطانا ، فالشيطان شاهق البياض . هو ملاك داكن ، معتم حتى أن القمر نفسه لا يكشفه . و هذه بلدته التي اختارها ليتفرج على عذابات يومية ، طالما تمناها .الحياة المؤقتة التي لا تفنى ، لأنها الحياة التي تبقيها الذكرى . الحياة التي يتركك فيها إلهك للخطأ .التي تتمنى فيها يوما جديداً يمدك بالحياة ، و يخصم منها .الحياة التي يتنفس فيها الجميع لكي يموتوا دون خوف في النهاية . النهاية ! .. تلك التي لا يعرفها . منذ آلاف السنوات و هو هنا ، و بعد عدد آخر لا يحصى سيظل . إنه يعرف الجميع واحداً واحداً ، لكن أحداً لا يعرفه . يتمنى أن تكون له ذكرى ، لا يتمنى غير ذلك ، ولا ينال سوى الحاضر.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* نصوص جديدة لم تنشر من قبل

 

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم

amr ezz aldeen
تراب الحكايات
موقع الكتابة

فيزوف

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب