محمد العربي كرانة
معادلة
قل الصخب، تفرقت الكائنات الليلية، حمل حراس الملهى شخصا ملقى على وجهه من فرط السكر بينما المنظفات يمسحن قيئا نتنا. أصوات ببألسنة متلعثمة تردد مقاطع من أغاني ساقطة، وأخرى تشتم الحظ العاثر والدنيا والبشرية جمعاء. على طاولات متفرقة رؤوس ملتصقة لندماء الليلة وأصابع تعبث بالأجساد وأخرى بالجيوب. أضواء ملونة تتراقص على الحيطان، على الأسقف، على الوجوه المتعبة، تعكسها المرايا لتخطف أبصار من بقي صاح من الزبناء. الفرقة الموسيقية هدها التعب تعزف لحنا نشازا يرقص على إيقاعه زوجان بحركات متثاقلة كدمى نفدت بطارياتها.
خلف “البار” كان النادل مشغولا بملء صناديق أسفله بزجاجات الخمر الفارغة وهو يرنو إلى الطاولات التي لاتزال مشغولة متمنيا أن لا يطلب شاغلوها مزيدا من الخمر، بينما المكلف بالصندوق يعد الحصيلة اليومية بعينين نصف مغمضتين جراء الدخان المتصاعد من اللفافة الثاوية بين شفتيه.
كانت جالسة في الجانب الأيمن من “البار” الملاصق للحائط وحيدة وأمامها مشروب غازي، تحملق فيما حولها بنظرات شاردة وقد أثقل النوم أجفانها. صاحب سيارة الأجرة الذي اعتاد اصطحابها إلى منزلها تأخر عن موعده، حاولت الاتصال به دون جدوى فقد كان هاتفه خارج التغطية. لا بد أن يأتي قبل أن يغلق الملهى أبوابه وإلا وقعت في مشكلة كبرى. قصص كثيرة تروى عن ما تعرضت لها مثيلاتها من تعنيف و سرقة واغتصاب بل في بعض الأحيان القتل أيضا.
أفاقت من هواجسها على وقع جدال وخصام وأصابع تشير نحو تلفاز عملاق مثبت على الجدار المقابل حيث كانت صور انفجار مهول تترى دون صوت. لم تستبن بوضوح ما كتب في الشريط المصاحب للصورة ولكنها وقفت على الدمار الهائل الذي خلفه. اشتد وطيس الخصام رغم تدخل الحراس وتناهى إلى سمعها وسط اللغط كلمات مثل لبنان… بيروت. فض النزاع بعد لأي وأسفر عن وجه مدمى وثياب ممزقة وقنينات مكسرة. انتظرت رجوع النادل الذي ذهب لاستطلاع الأمر لتسأله عن أسباب الخصام، فأكد لها أن اختلاف المواقف من الحادث المأساوي هو أصل المشكل، لما طلب زبون أن يرفع من صوت التلفاز حتى يتمكن من سماع تعليق المذيعة، اعترض أحد السكارى – وربما لسكره – لم يأبه للصور المأساوية للانفجار، ولا للمأساة الإنسانية التي أصابت البلد، ثم رفع عقيرته مطالبا بإطفاء التلفاز لكي لا ينغص عليه ليلته، مما أغضب الاول فلكمه لكمة أسالت دمه.
بيروت … لبنان، ابتسمت، وانبسطت الأسارير المثقلة بالمساحيق وهي تتذكر مكتبتها الصغيرة في منزل اختفت معالمه من ذاكرتها، حيث كانت تصطف قصص وكتب كانت بوابتها نحو عالم سحري، زادت من رونقه مخيلة مجنحة تتآخى و أبطالها خاصة و أن النهاية في جلها تكون سعيدة. ما كان يجمع بين هذه الكتب عبارة صغيرة طبع في بيروت – لبنان. خالت في طفولتها أن بيروت مطبعة كبيرة لا شغل لها سوى طبع الكتب.
وها هي ذي بيروت تقتحم عليها عالما لا مكان فيه للبشر السوي وأحرى للكتاب. وتزيد جرحا آخر في نفس مثخنة أصلا بالجراح، دعت لبيروت بالسلامة وعادت لهمومها الآنية. ألقت نظرة على هاتفها، لازالت أمامها ساعة ونصف قبل أن يغلق الملهى أبوابه. تساءلت باستغراب ما الذي اعتراها هذه الليلة وما الذي يميزها عن الليالي الخوالي، أليست نفس المثالب، نفس الأقنعة و الهامات التي لا وجوه لها ونفس الأدوار، وكأنها مسرحية سيئة الإخراج لممثلين حفظوا أدوارهم عن ظهر قلب وجسدوها بحذافيرها دون أن يملكوا الشجاعة للخروج عن النص للحد من رتابتها.
ربما صورة الفتاة الصغيرة ذات الضفائر التي كانت بصحبة أمها في الحافلة والتي كانت محط إعجاب الركاب من جعل ليلتها مغايرة. كانت الأم المزهوة بجمال ابنتها تتقبل المديح بابتسامة عريضة وبانحناءة من رأسها. مسح الماسحون برأسها، وقبلها آخرون. غاظها الموقف فاقتربت منها داعية إياها للحفاظ على ابنتها من شر العيون. كان رد الأم سلبيا إذ اتهمتها بالحسد وبالفضول وكاد الأمر يتطور لاشتباك بالأيدي بعد أن ناصرها بعض الركاب. فضلت الانسحاب ونزلت في المحطة الموالية.
ما الذي دهاها للتدخل فيما لا يعنيها. سؤال صاحبها طيلة الليلة وأثر على عملها وجعلها تعجز عن جر الزبائن لمزيد من الاستهلاك وذاك صلب عملها، مما سيعرضها حتما للمساءلة. ادعت أن مغصا يقطع أمعاءها فسمح لها بالانزواء حيث هي.
أخرجت من حقيبة يدها صورة بهتت ألوانها وتشققت حوافها تجسد صبية صغيرة فاردة ذراعيها نحو شخص لا تبدو منه غير ذراعين مستعدين لحضنها. للصبية وجه صبوح زادته الابتسامة البريئة إشراقا بينما جمدت الكاميرا ضفيرتيها في وضع أفقي جعلتها تبدو وكأنها خارجة لتوها من باقة الأزهار المختلفة الألوان المحيطة بها. صورة تشع سعادة وحبورا وتتنبأ للصغيرة بحياة رغيدة في كنف والديها.
حياة رغيدة … عاشتها فعلا وإن لم تكن كذلك تماما ولكنها في مجملها مقبولة ومستقرة قبل أن يتدخل القدر ويقلبها رأسا على عقب. أرجعت الصورة إلى ظرفها ثم إلى جيب حقيبتها عاقدة العزم على إرجاعها إلى خزانتها بالمنزل خشية أن تضيع منها.
كيف انقلبت حياتها، ذلك ما لم تفصح عنه أبدا رغم إلحاح من عاشرها أو كان على صلة بها. ليست من اللواتي ينشرن قصص حياتهن على الملإ طمعا في تعاطف أو إشفاق أو تبرير، أو تزجية لوقت مع عاشق ثمل أو طامع شبق. جمالها وثقافتها أخطآ وجهتهما فكانا معا شؤما عليها. الجمال جذب الطامعين كما تجذب الأزهار النحل وكان العامل الرئيسي فيما وقع لها، والثقافة شكلت عائقا وقبول الواقع الجديد بسلاسة ورضا.
السؤال الأكبر الذي قض مضجعها وجعلها تعيش ليالي بيضاء هو لماذا هي بالضبط؟ وهل للأمر علاقة بجزاء عن ذنب اقترفته؟ أم أن ما وقع لها كان مقدرا و أمرا مقضيا. إن كان الأمر كذلك فأين الاختيار؟
إنها متأكدة تماما أنها لم تختر وإنما أرغمت فكيف إذن تتحمل تبعات شيء فرض عليها فرضا؟ العدالة الإنسانية وقفت عاجزة عن إنصافها فمن سينصفها؟ كفرت بالقدر لما أعياها الأمر، وكادت أن تذهب أبعد من ذلك. عقلها أشقاها في النعيم وفي الشقاء معا. ولكي لا تفقد ما بقي منه طفقت تبحث عن مبررات وإن في عالم تجريدي افتراضي، فهداها إلى مفهوم الثنائية أي لا بد من الشيء ونقيضه فلا وجود لظلام بلا نور، ولا لجمال بلا قبح، ولا لعفة دون تهتك ولا لشرف دون فجور… ضيم كبير شعرت به وهي تصنف في الجانب السلبي لهذه الثنائيات وإن كانت في مجملها نسبية، من قسم الأدوار فليتحمل المسؤولية.
في البداية كان الأمر صعبا، أياما كثيرة قضتها في ذهول تام ودت خلالها لو أن الأمر مجرد كابوس سرعان ما سينجلي وتعود لحياتها العادية. غياب السند المعنوي من أقرب الناس إليها، وانغلاق جميع الأبواب التي طرقتها في وجهها جعلاها تقتنع بأن الماضي قد انتهى بكل ما له وما عليه، وأن عليها أن تواجه واقعا مجهول المعالم.
لم تكن مهيأة لمجابهة ذئاب البشر، فحيثما لاحت شعلة من الأمل والتفهم إلا ودفعت الثمن من جسدها وكرامتها وفيما بعد حتى من مالها وإنسيتها. أيقنت أن لا خلاص لها من هذا العالم السفلي إلا بالتماهي معه والتخلي نهائيا عن حلم الانعتاق من براثنه. فكان عليها أن تتخلص من وعي شقي من مخلفات ثقافتها أيام كانت في الضفة الأخرى حيث كانت تشعر دوما بتأنيب الضمير مما تقوم به، ولكن سرعان ما تكبته بمبرر أنها كانت مضطرة ولم يكن لها من خيار. أسقط في يدها إلى أن وجدت حلا منطقيا من منظورها يريحها نفسيا في شكل معادلة بسيطة ذات بعد ديني مفادها “إن الحسنات يذهبن السيئات “. لم تكلف نفسها عناء البحث عن نوعية السيئات المقصودة ولا الحسنات. خصصت جزءا من مالها للفقراء و للأعمال الخيرية في حيها حيث لا يعرف أحد طبيعة عملها.
تصالحت مع ذاتها، تساوت كفتا الميزان، هذه بتلك والرب غفور رحيم، ثم ألم تدخل بغيا الجنة عندما سقت كلبا ظمآنا كما هو متواتر !!! لقد سقت هي الأخرى كلاب الحيوان والبشر معا. استسلمت لقدرها، ابتلعتها دوامة عالم لا يرحم أتقنت قواعده وتسيدته زمنا، واكتشفت زيف المجتمع ونفاقه، وأن على كل الوجوه أقنعة تلبس وتزال حسب الظروف، وأن كل ما فيه نسبي قابل للتغيير حسب الميول والرغبات. جميع رواده على اختلاف طبقاتهم وثقافاتهم متشابهون في انحرافهم وخساستهم بعد أن يكونوا قد تركوا أقنعتهم خارجه.
ترجلت، عن عرش لم تدم على سدته طويلا، المنافسة شديدة، والوافدات كثر، وانتهى بها المطاف في هذا الملهى من الدرجة الثالثة كساقية ونادلة ونديمة حسب الطلب.
في بعض الإشراقات القليلة وقبل أن تنام كانت تتساءل ما الذي كان سيقع لو كان حظها في هذه الدنيا أسعد؟ هل ستنهد أسس المجتمع ويصبح عاليه سافله؟ هل ستحرم أحدا من سعادته مقابل شقائها و بؤسها؟ ما كان في مقدورها أن تجيب عن أسئلة لا جواب لها أصلا. كانت صيحة ثائرة عاجزة بئيسة. ما عاد الدمع يجدي ولا الغضب، فكانت تتجه نحو علبتها الأثيرة، حيث صورها لما قبل الانتكاسة، تضمها إليها تقبلها تصفها حسب تاريخ التقاطها، ثم تخال نفسها في عالم موازي سارت فيه الأمور كما كان يجب أن تسير، حياة سعيدة أسرة أبناء عمل واحترام، ولما لا، قد تكون للإنسان امتدادات وحيوات أخرى يجهلها مخالفة لتلك التي يعيشها بالفعل. تعلم في قرارة نفسها أنها تهلوس ولكن أي شيء ينسيها قتامة حياتها ولو إلى حين مرحب به. مثل هذه الانفلاتات ما مكنها من الصمود والابتعاد عن أفكار سوداوية كانت ستقودها حتما إلى الانتحار الجسدي بعدما انتحرت عاطفيا ونفسيا.
صوت أحد الحراس أخرجها من شرودها مخبرا إياها بأن سيارة الأجرة تنتظرها بالباب. همت بالخروج ولكنها تذكرت أن عليها أن ترتدي قناعها. هرعت نحو غرفة المستخدمين حيث تخلصت من كل ما يمكن أن يربط بينها وبين الملهى … التي امتطت سيارة الأجرة امرأة نكرة كباقي النساء اللواتي يكدحن ليل نهار لإعالة أسرهن. ………….
………………….
حيرة
وقف المفتش أمام رئيسه المنهمك في قراءة أوراق أمامه، أدى التحية وانتظر، سأله رئيسه دون
أن يرفع رأسه ودون أن يأبه بتحيته:
– هل من جديد؟ أريد تقريرا مفصلا ونتائج سريعة.
– المشكل ليس في التقرير يا سيدي، ولكن في النتائج.
– كيف ذلك؟
– نماذج التقارير متوفرة ولكم واسع النظر في اختيار ما يتناسب والحالة التي نحن بصددها
ولكن بالنسبة للنتائج ….
– ما لها النتائج؟
عرق بارد ينزل من تحت إبطي المفتش ويبلل قميصه، ورعشة خفيفة تعتري أطرافه، أجاب
بعد تردد قصير:
– ليست هناك نتائج سيدي… حاولنا بالطرق المعهودة مع مراعاة تعليماتكم فلم نحصل على
شيء.
– غير ممكن، الرجل يبدو هشا، وقد يكون به مس.
– لا أشاطركم يا سيدي الرأي، فلو كان هشا لكنا حصلنا مبتغانا بسهولة، أما عن المس …
شجعه رئيسه على الإستمرار بانحناءة من رأسه
– فرضية المس ممكنة يا سيدي، فكأنما نحن في عالم وهو في عالم آخر. لم يأبه حينما وقفت سيارتنا بجانبه، ولا حين قذفنا به داخلها. أدهشنا تصرفه وأغاظنا، تمالكنا أعصابنا واصطحبناه إلى المخفر حيث بدأنا باستجوابه. لم يكن الأمر هينا سيدي… فقد رفض أن يمدنا باسمه وباسم والديه وبمقر سكناه، واكتفى بالنظر إلينا كأنه لا يرانا … نسينا تعليماتكم للحظة، وأمرناه بخلع ملابسه وأنتم تعلمون سيدي بأن خلع الملابس يهز أكثر القلوب رباطة لما يمكن أن ينتج عنه، الناس تخاف على عوراتها، أتدري سيدي ما حصل؟
حرك الرئيس رأسه بالنفي، واستطرد المفتش:
– خلعها يا سيدي دون أن يرف له جفن، ووقف أمامنا عاريا وفي عينيه نظرة غريبة، مزيج من الاحتقار والتحدي. لم أتمالك نفسي وصفعته صفعة قوية اصطكت لها أسنانه، ترنح من وقع الصفعة ولكنه لم يسقط، خيط رفيع من الدم انساب على ذقنه مسحه بظاهر يده ثم تكلم … أي والله سيدي تكلم اغتبطنا جميعا وكأن كلامه غاية المنى، نسينا ونحن المتمرسون أن الكلام لا يهم في حد ذاته وأنه وسيلة للوصول لمرادنا، استمعنا له … كان صوته هادئا رزينا وهو يقول:
– رغم الصفع فالزمن تغير، وأنتم سترمون في مزبلة التاريخ.
تصور سيدي لقد بدأ يتفلسف ولد ال… عفوا سيدي، لقد أخرجني هذا الملعون عن أطواري. شيءما تغير بالفعل بدءا من السيارة.
تساءل رئيسه باستغراب:
– السيارة؟
– نعم سيدي السيارة.
– ما لها السيارة؟
– فقدت كثيرا من هيبتها، كانت حتى وهي واقفة، فارغة، مدعاة للاحترام والتقدير، أما إذا كنا
فيها فلا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. أما الآن…
نظر رئيسه إليه بإشفاق، هو نفسه في البداية لم يستسغ التعليمات الجديدة، ليس لأنها معقدة، ولكن
لطبيعتها الفجائية. حقوق الإنسان، حرمة القانون، حرية التعبير، عناوين ضخمة لتغيير أريد له
أن يكون جذريا، فاصلا بين مرحلتين. تناسى الجميع أن سنوات من العمل تورث صاحبها طبيعة ثانية
تغطي في كثير من الأحيان على شخصيته إن لم تلغها نهائيا.
أمر المفتش بالاستمرار في مهمته، وبمحاولة فتح حوار مع المتهم بطرق حضارية تضمن تعاونه
للخروج بأكثر ما يمكن من المعلومات فالوقت لا يرحم.
أدى المفتش التحية وعلى وجهه حيرة كبرى، ثم استدار لينصرف. استوقفه رئيسه:
– أعيدوا له ملابسه، ليس من الضروري أن يبقى عاريا.
خرج المفتش دون أن يغلق الباب. لم يعد يفهم شيئا، تجربة ثلاثين سنة من العمل أصبحت لاغية ….
أن يحاور المتهم بطرق حضارية !!.