إبراهيم سلامة
الحذاء الأسود اللميع
شريداً وحيداً فى العقد الرابع، فارع الطول، ذا منكبين عريضين، تبدو عليه بقية من صحة تظهر فى قوامه المشدود، يتجول فى شوارع الحى القديم كعادته، تعلو وجهه الأقذار، تبدو على سماته بعض الوسامة المفقودة وراء شعره الأسود المنكوش بخصلات ملبدة متفرقة، ولحية طويلة غير مهذبة، مع اتحاد غريب بين شعرى الرأس واللحية فى لوحة سريالية ليس لها معالم سوى تلك المسحة الحزينة التى تكسو محياه..
يرتدى سترة تبدو انها بقية بدلة جرى عليها الزمن من زمان وشرب وأكل، لا لون لها من شدة الاتساخ، تحتها قطعة من قماش تبدو أنها كانت قميصاً غير واضح المعالم، فى نصفه الأسفل بنطال ربما كان القطعة التانية من البدلة، لا تعرف إن كان رمادياً وأصبح أسود بعدما طالته الأوساخ، أم أنه كان أسود فضربته الشمس فأصبح كالحاً..
فى قدمه مداس يشبه الشبشب أو الصندل، بعض سيوره مقطعة.. تظهر من خلاله أصابع القدم متسخة بأظافر طويلة تختبئ تحتها الأوساخ، مثل يديه اللتين مضت عليهما أزمان لم تريا فيها الماء، او بالأصح هو لم يغتسل منذ سنوات..
يبدو من مظهره أن له قصة مفقودة فى ذاكرته..
تمُر عليه بعض النسوة الكبار الطيبات ممن يسكن فى تلك الناحية، هذه تحنو عليه بطعام وتلك بزجاجة مياه، يقبل عطاياهن التى لم يطلبها منهن بنظرة امتنان وابتسامة خفيفة يشوبها حزن غامض عميق.. ويقتسم عطاياهن مع كلب بلدي من كلاب الشوارع الضالة الذى تعاطف معه وأصبحا صديقين متلازمين متآنسين، يأتنسان ببعضهما عن فقد الصُحبة والأحِـبّـة..
حان الآن موعد اذآن الظهر.. وحان معه موعد تجوله فى شارع الحى الرئيسي، يتمتم بكلام غير مفهوم.. لعله يصلى أو يناجى خالقه، أو يناجى حبيبه الغائب الذى لا يعرف له مكان..
لا يعرف أحد من أين أتى وإلى أين يمضى.. تعودت الناس على رؤيته متجولاً فى ذات المكان، و نفس الميعاد.. هل للمكان والزمان معنى فى ذاكرته ؟، أم هو مجرد مجذوب؟..
يقف أمام نفس فاترينة الأحذية، يشير لذات البائع على نفس زوج الحذاء الأسود اللميع، يرد عليه البائع بالإجابة ذاتها..
- مقاسك لم يصل بعد..
يخرج مكسوراً مطأطئ الرأس حزيناً بدون اعتراض ككل يوم، منتظراً اليوم التالى بدون ملل أو تأفف.
رغم البارانويا وفقدان الذاكرة، فمازال ذلك الحذاء الأسود اللميع الوسيلة الوحيدة للاتصال بماضيه الأليم والذى قد اشتراه يوماً خصيصاً ليوم زفافه..
***
الفستان الدانتيل الابيض
مازالت المواقع مقلوبة، عندما رأيت صورتها النائمة وشعرها الأسود المتهدل حول رأسها الجميل على الوسادة الحمراء بلون دم الغزال المزركشة بالقلوب البيضاء، وثوبها الدانتيل الأبيض، فأغرانى بهاؤها بالاقتراب منها.. اقتربت شوقاً وحنيناً، وقد مضى فقط بضعة أيّام على اخر طلّة لها، اقتربت أكثر فأضحت الصورة كلوحة من العصور السحيقة العامرة بالنمائم لتفاصيل وجهها الدقيقة..
عندما التفّ ذراعى حول جسدها العليل، تحركت جفونها المغلقة، ذات الرموش المتهدجة.. وبعد أن فتحت عينيها الذابلتين، تجاوبت بابتسامة خفيفة أظهرت غمّازتين على الخدين.. هاتان الغمازتين اللتان تذوّبانى.. همست بصوت كهمس نسائم الربيع وحفيف أوراق الشجر..
حبيبى..
انخلع قلبى، ودق دقات طبول الهلع غير مصدق ثم رقص القلب فرحاً..
حبيبتى..
أحكمت ذراعيّ حول خصرها النحيل، فغمرتنى رائحة أنفاسها ذات العطر المفضل لى، واقتربت منها حتى لامس خدى وجهها.. أحسست بملمس خدها المخملي.. وجدته بارداً برودة الرخام.. انخلع قلبى.. التفتُ إليها لأجد وجها الساكن الهادئ هدوء الموت..
فانتفضتُ مستيقظاً وجدت صورتها مازالت فى حضنى.. صورة ابنتى العروس، غير مصدق أنها ماتت فى هذا الحادث..