حسان الجودي
1-حرّاس الزمن
خلوت بنفسي لأكتب نصاً عن دمية غريبة موجودة في متحف المدينة. أسدلت ستائر الغرفة، أغلقت الموبايل، وجلست إلى طاولة الكمبيوتر. فتحت ملف الصور، واستخرجت منه صورةً لتلك الدمية التي التقطتها قبل أسابيع.
كانت الدمية ذات ملامح وجه مشوهة، ويبدو أن أحداً قد استخدم سكيناً لذلك. أما جسدها فكان مغطى بأسلاك رقيقة مذهبة تظهر حشوتها الداخلية، فقد أصاب البلى كساءها الخارجي. حين سألت أمين المتحف عن معلومات تتعلق بتلك الدمية. أخبر بفقدان بيانات تلك الدمية. وهذا ما دفعني إلى محاولة كتابة قصة متخيَّلة عنها.
بدأت باختيار الحقبة الزمنية المناسبة، ورأيت أن عام 700 ميلادي سيكون مناسباً. واخترت المكان سوقاً في دمشق يعرف بسوق القصّاصين. تجولت بأفكاري في ذلك السوق حتى وصلت إلى دكان صغير، يعمل فيه محروس في صناعة المقاعد الخشبية الصغيرة. رأيت محروساً، يعالج قطع الأخشاب بمنشاره، ثم يشكلها بمبرده الحاد وإزميله الدقيق حتى تصبح أربعة سيقان خشبية جميلة، يقوم بعدها بتثبيت قاعدة خشبية أنيقة فوقها.
وقفت بفضول مراقباً إياه. نادى بائع مرطبات، واشترى كوباً من العصير. ثم عاد إلى عمله. لكنه هذه المرة أخرج هيكل تلك الدمية، وباشر العمل عليه.
كان من الواضح شغفه بإنجاز تلك الدمية. قلت لنفسي” ربما تخص ابنة له”.
لم أقتنع بصوتي الداخلي، فمحروس يبدو فقيراً، ودمية المتحف مشغولة بخيوط الذهب.
هممت بالاقتراب منه، لأبادله الحديث. فسمعت طرقاً عنيفاً على باب غرفتي. وسمعت ضجيجاً ولغطاً يشبه ما سمعته في سوق القصّاصين. أسرعت إلى فتح الباب، فتدفق جمع من الرجال. كان واضحاً انتماؤهم إلى تلك الحقبة القديمة، واكتشفت بعد لحظة، أنهم جميعاً كانوا من العاملين في سوق القصاصين.
نهرهم رجل وقور، فالتزموا الصمت. وقال الرجل لي بلهجة تهديد:
-ماذا كنت تفعل قرب دكان محروس؟
أجبت وأنا أرتعش من المفاجأة:
-أريد كتابة قصة عن تلك الدمية التي يصنعها.
-وهل تعرف يا فهمان أي شيء عن محروس! هل تعرف لمن يصنع تلك الدمية، وهل تعرف سبب صناعتها؟
كانت تلك أسئلة مخيفة، ترافقت مع إشعاعات غضب خرجت من عشرات العيون المحدقة بي.
أعلنت لهم استسلامي الكامل. لكنني حاولت الدفاع عن نفسي فقلت:
-أنا كاتب صناعتي الخيال.
تقدم أحدهم مني بسرعة وهمَّ بعصاه. غير أني تجنبت ضربته ببراعة.
صرخ الرجل الوقور محذراً من جديد. ساد الصمت لهنيهات. ثم قال:
-لا يمكنك تأليف حكاية عن سوق القصاصين دون موافقتنا!
تنهدت بارتياح، وقلت لنفسي ” لقد انتهت الأمور بسلام”
وطلبت منه الموافقة على كتابة قصة عن تلك الدمية.
سمعت قهقهة عالية، ورأيت محروساً يتقدم نحوي مهدداً، وفي يده ذلك المبرد الطويل. ثم قال بسخرية:
-ستكتب القصة التي سأمليها عليك.
رأيت الوجوه الغاضبة تحدق بي من جديد، وشعرت بمبرد محروس قرب حلقي. فأعلنت موافقتي دون تردد.
كانت قصة محروس تافهة وزائفة كما توقعت. فقد أخبرني أنه يواظب على صناعة دمية ذهبية كل عام لابنة شيخ الكار.
هممت بسؤاله عن سبب تشويه وجه الدمية، غير أني تراجعت، بعد أن شعرت أن مبرد محروس بدأ باختراق جلدي. فاستسلمت لمصيري الغامض، ورضيت بقدري ككاتب معاصر زار سوق القصّاصين. ولم يجرؤ حتى اللحظة على كتابة قصة تخالف وصايا حرّاس السّوق.
2-باي المقدسπ
يتبع الصياد خيط دم متقطع. لقد أطلق سهماً باتجاه الغزالة، وظن أنه قد أصابها. يمضي ساعات وهو يتعقب نقاط الدم، ويستغرب كيف أنها ما تزال طازجة لم تتخثر. يشعر أخيراً بالإنهاك، ولا يلبث أن يستغرق في نوم مضطرب، يشاهد فيه تلك الغزالة الجميلة النادرة وهي تنزف من ساقها، وتبتعد كثيراً حتى نهاية الصحراء.
هل كانت هي الصحراء، أم كانت هي الغابة؟ ولماذا تختلط عليه الأمور؟ أفاق من غفوته سريعاً، فلاحظ بقعة الدم التي تشكلت من جسده. ولاحظ ذلك السهم الذي استقر في ساقه.
يدرك حينها أنه كان يطارد خيط دمه، وأن الغزالة وهم صنعه عقله. يتساءل كيف أطلق السهم على نفسه إذاً؟ وكيف يلاحق خيط دمه والذي من المفروض أن يكون سابقاً له وليس لاحقاً؟
إنها أحجية! يقول له عقله، ويطلب منها حلها بسرعة قبل أن تشم الضباع رائحة الدم الشهية.
فكر بالأمر قليلاً، ووجد أن ما يفسر ذلك هو أنه يسير على محيط دائرة لا تتغير. وأن مكانه اللاحق على محيط تلك الدائرة هو مكان سابق له. واقتنع أنه أطلق سهماً باتجاه الغزالة فأصابها، لكنه تلقى بالمقابل سهماً في ساقه من صياد آخر.
يعود عقله إلى شكه، ويسأله عن الصياد الآخر، فيقتنع أن الصياد الآخر موجود على محيط نفس الدائرة. ويسترسل في تحليله للأمر، فيقتنع أن هناك المئات من الصيادين الذين أصابوا الغزالات في غير مقتل، بينما أصابوا أيضاً سيقان بعضهم.
يشعر بالخوف، بسبب تلك الهلاوس التي تتجسد أمامه. ثم يشعر بالرعب وقد لاحظ توافد قطيع الضباع نحو مكانه.
اقترب قائد القطيع من شجرة مجاورة لمكان الصياد، وانقض على جثة صياد آخر غارق في دمه. ثم تفرّق باقي القطيع، وتوزعوا فيما بينهم جثث الصيادين المصابين في سيقانهم، وقد أعماهم مرض الغزالات. فلم يروا (باي) ذلك الثابت المقدس الذي ما يزال يشكّل دوائر الموت للجميع.
********