عبد العزيز دياب
حكاية مفترضة
افتراض
افترض أن هاتفاً قد جاءنى الليلة، أخبرنى أن قارئاً مفترضاً سيأتى بعد مائة عام، ليقرأ حكايتى المفترضة، رغم أننى افترض أيضاً أن قصتى هذه بعد المائة عام لن يكون لها أثر، لذا سأكتبها الآن على جلد الماعز. ورق البردى، على الصخر. الجدران. الشجر، ثم أتسول مائة يوم لأحفظها بين دفتى كتاب.
مشهد غير افتراضى
ثلاثة: رجل وقط وهدهد، يمكن ترتيبهم هكذا فى أى ظرف افتراضى، ولأن هذا المشهد غير الافتراضى مشهداً ليلياً فيمكن سرده هكذا:
ثلاثة: هدهد وقط ورجل، هم أبطال مشهد حقيقى فى ليلة صيفية، فيها نسيم راقص، وأصداء أغنية قديمة، ولأن للمشهد الغير افتراضى أبطال ثلاثة، فلابد أن يكون له شخوص ثانوية: شجرة. مصطبة طينية. ثلة رجال يجلسون عليها، تسامرهم ليلة صيف، افترض أن يكون عددهم: ثلاثة، أو أربعة، أو خمسة رجال، لن يؤثر ذلك على مشهد حقيقى، اندفع فيه الرجل خلف الهدهد الذى تخبط فى غصون شجرة، فيما كان ينافسه القط فى الوصول إليه.
هكذا كانت قراءة المشهد من وجهة نظر ثلة الرجال المتسامرين، أو أية وجهة نظر أخرى.
ينضم الرجل إلى ثلة الرجال، بعد أن يرتد خاسراً مع القط الذى ارتد هو الاخر جوعان. يظهر الهدهد مرة ثانية، يتخبط فى غصون الشجرة مرة ثانية، يندفع وراءه الرجل مرة ثانية، يندفع القط فى الوصول إلى الهدهد مرة ثانية، فيما تنبىء عودة الرجل والقط خاسرين بتكرار هذه المحاولة مرة ثالثة ورابعة وخامسة، حتى يختفى الهدهد ولا يعاود الظهور مرة أخرى.
تفاصيل حكاية مفترضة
“قل لهم يا رجل لماذا يركض واحد مثلك للمرة الخامسة وراء هدهد ؟!”
هى عبارة واحدة قالها الراوى. قالها شخص مفترض داخل الحكاية. قالها شخص مفترض خارج الحكاية للرجل الذى انضم إلى ثلة رجال على المصطبة الطينية، عبارة واحدة أتت على لسان مفترض، ولأن ثلة الرجال كان خيالهم يتسع فى كل مرة يركض فيها الرجل وراء الهدهد، فقد أنتجت مخيلتهم الثرية حكايات افترضوا أنه سيحكيها فى المرات القادمة، بعد أن يرتد ويجلس بجانبهم، حكايات يجب أن يستر بها خِزْيَه أمامهم، ليس ذلك فحسب، إنما بحثوا له عن سبب يزيحه- وهو يركض وراء هدهد- عن طريق البلاهة، فقد جعلوه فى مخيلتهم ثرياً، افترضوا أنه يمتلك طيناً. بهائم. أغناماً. خيلا. حدائق. نخلا. بيوتاً عامرة بأولاد. أحفاد، افترضوا كذلك أن أسراره مستباحة، مرمية على النواصى، يلتقط منها من يشاء من المارة.
الكل أصبح يعرف كم عدد أبقاره التى فى الزرائب. الجاموس.الغنم، كم عدد الخيل، أصلها. نسبها، كم عدد أجولة القمح فى المخازن. الأرز. الشعير. الكيماوى، يذكرون أعداد بهائمه، فتموت- حسداً- واحدة وراء الأخرى ، فيمتد صراخه من طلوع الشمس إلى ما بعد العشاء.
رجل مثله فى ظرف مثل هذا، افترضوا أنه يلتقى بغجرية عرافة، فجعلوها فى طريقه بكلامها الساحر، قبل أن ينطق هو أنطقوها، عرف منها الرجل أن عدد أولاده وأحفاده سبعون، فمن يكون قد همس لها بهذا السرغير ثلة الرجال الذين انضم إلى جلستهم المسائية، فهم زوجوه أربع نساء، وانتظروا حتى أتممن ولادتهن، وأحصوا أبناءهن/أبناءه، وزوجوا أبناءهن، وأحصوا أحفادهن/أحفاده، حيرته العرافة الغجرية عندما همست فى أذنه:
“آه لو نقص هذا العدد واحداً، أو زاد واحداً، لما أصبحت أسرارك بعد ذلك مستباحة”
افترضوا أنه نفض كم جلبابه، انتفض من أمامها. الأمر لا يصل أبداً من عرافة غجرية أن توحى إليه بأن يقتل أحد أحفاده، لكى يتخلخل الرقم سبعين/عدد أولاده وأحفاده، ورأى نفسه يستدرج أحد أحفاده إلى طريق البحر، وهناك على الحافة- فى غفلة من هذا الحفيد- قذفه إلى الماء، هل يمكن أن يفعل ذلك، وهو لتوه قد انتهى من من حكاية مماثلة- من الحكايات التى افترضوا أنه سيحكيها ليستر بها خزيه- عن الرجل الذى خَيَّرَ ولديه من منهما يتقبل الموت، ففر الولدان خوفاً ورعباً من كلام أبيهما الذى كان جاداً، فى يده سكين حامية ، حتى سقطا من فوق ارتفاع شاهق وماتا.
افترضوا أنه فكر بطريقة أخرى، فهو لكى يخلخل الرقم سبعين يمكنه أن يحث أبناءه على إنجاب حفيد يخلخل حضوره إلى الحياة هذا الرقم، أو يفعلها هو ويتزوج، أعجبه هذا الخاطر، فضحك. قهقه. طوح رأسه إلى الوراء فانكشفت أسنانه المهشمة.
أنقذته- كما افترضوا- العرافة الغجرية. قالت: تذبح هدهد، تكتب بدمه الرقم سبعين على باب البيت. وصِدْغى البيت. الجدران.الشبابيك. الأسِرَّة. الدواليب. الدكك الخشبية، تكتبه فى كل مكان، حتى لا تكون أسرارك بعد ذلك مستباحة.
خاتمة على هيئة نصيحة مفترضة
لاتقل لهم- إذن- يا رجل، لماذا يركض واحد مثلك وراء هدهد حتى يتسع خيالهم أكثر وأكثر، فشىء جميل أن تكون ثرياً وكل هؤلاء العيال عيالك.
………………..
المُحَاضِر المَشْطُور
إلى إيتالو كالفينو
المتدربون لا يهمهم إلا أن يؤدى المُحَاضِرْ دوره، يعرض على شاشة “البروجوكتور” المادة العلمية، لن يسأله أحد- وهو يمارس طريقة العصف الذهني كأسلوب تربوي فعال- أين ذهب نصفه الآخر بعد أن شاهدوه جميعاً ينشطر بكل يسر إلى نصفين، مكث أحدهما يؤدى دوره المنوط به كمحاضر، بينما انفلت النصف الآخر مغادراً القاعة بسلام، ملوحاً للمتدربين في أناقة دون أن يحمل أشياءه: الموبايل، النظارة الشمسية، علبة سجائره الميريت، لا أحد من المتدربين استطاع أن يجزم إلى أي مكان ذهب.
انتهى الجزء الأول من المحاضرة، مر سريعاً ما بين رشاقة المادة العلمية التي قدمها المحاضر المشطور وشرودهم في احتمالات توجه النصف الآخر.
الساعة لم تتجاوز العاشرة صباحاً، إلى أن تنتهي الحفلة الصباحية لسينما “رويال” هل يتسكع نصفه الآخر في الشوارع قبل التوجه لمشاهدة فيلم “جحيم فى الهند”، لن يفكر في الذهاب إلى محل “لابوار” لتناول ساندوتشات الهامبورجر، فقد جلس المحاضر في أحد الحجرات الملحقة بالقاعة، تتناول بعض ساندوتشات الجبن الرومى، والبيض، والمربى، مع كوب الشاي، هذا قبل أن تبدأ المحاضرة وينشطر على نصفين… كالعادة سيكون أحدهما طيباً والآخر شريراً.
إذا كان نصفه الشرير هو الذي غادر المحاضرة فإنه بالتأكيد قد وصل إلى سينما “رويال”، لو أن أحد المتدربين كان هناك لحظة عرض فيلم “جحيم في الهند” فإنه كان سيشهد كل ما يحدث من أصوات فزعة واستغاثات رهيبة، نتيجة المشاجرة الشرسة التي خاضها النصف الشرير داخل صالة العرض، ويشاهد كذلك رواد السينما وهم يندفعون خارجين من البوابة فراراً أمام نصل مطواته الذي يعربد أمام وجوههم، هو لا يبغى من هذه المعركة إلا أن يكون هو المشاهد الوحيد في صالة العرض، يأتيه التبغ والحشيش على طبق من فضة، وحتى لا يفقد مذاقه تقدمه يد طرية لحسناء يلتَهِمْ بنصف شفتيه شفتيها على طريقة أفلام الأكشن الأمريكية، وحتى يكتمل المشهد وتكون هي الوحيدة التي يَسْمَح لها بالجلوس إلى جواره، عليها أن تترك مساحة مناسبة لعرى نهديها.
أما إذا كان هذا النصف الشرير هو الذي يقدم المحاضرة، فلن تكتمل محاضرة يغازل فيها المحاضر إحدى المتدربات أسرفت في طلاء شفتيها، ليس ذلك فحسب، بل إنه تسلل إلى دورة المياه وراءها عندما كان المتدربون مشغولون في تدوين ما تفتقت عنه عملية العصف الذهني، لن ينتبه أحد إلى الصرخة المكتومة لصاحبة الشفتين، ولا الدماء التي خرت من أسنان زميل لها- توجس من تحركات المحاضر المشطور- على أثر لكمة قوية تلقاها، ليس ذلك فقط، بل إنه في ظرف عشر دقائق- انسل فيها خارجاً من قاعة المحاضرة- استطاع أن يمتطى أحد الموتوسيكلات، اقتحم أحد محلات الصرافة، وضع نصل مطواته في رقبة مدير المحل وخرج بمبلغ لا يستهان به في حقيبة بحجم كف اليد، وارتد إلى المحاضرة دون أن يستطيع أحد أن يمسك به.
النصف الشرير لن يتخلص من خصاله أبداً، رشق مطواته في باب قاعة المحاضرة مطالباً المتدربين بدفع إتاوة قبل خروجهم من المحاضرة، أذعن المتدربون لطلبه أمام تهديده وقطع عقلة من خنصر زميل لهم حاول الاعتراض، كل من يمر خلال الباب خارجاً وضع مبلغ خمسون جنيها أمامه على طاولة، في نفس الوقت الذي احتجز فيه ثلاثة من المتدربين لم يستطيعوا الوفاء بالمبلغ كاملا نظراً لضيق اليد، ظل محتجزاً إياهم مهدداً بتعذيبهم، إلى أن جاء نصفه الطيب، قهقه، أطلق صفيراً عالياً، أخبره أن بحوزته أخباراً طيبة، كان قد انسل إلى البيت فوجد ابنته/ابنتهما طريحة الفراش ما بين الحياة والموت قد بدأت تستعيد عافيتها.
رغم الأخبار الطيبة، رفض النصف الشرير طلب نصفه الطيب بإطلاق سراح المتدربين المحتجزين، ظل مصراً على رفضه، لم يكن أمام نصفه الطيب إلا أن يلتحم بالنصف الشرير، كانت قوات الشرطة ومعها مدير وصاحب سينما رويال، متهما نصف رجل بأنه أهدر إيراد حفلة كاملة، تزاحم جمهور الحفلة الذين طردهم من قاعة السينما مطالبين بقيمة تذاكرهم، فدفعها صاغراً، كان بصحبتهم صاحب محل الصرافة وجريح حاول منع نصف المحاضر الشرير من الهروب وبحوزته الأموال التي نهبها، ونفر من المتدربين بصحبة زميل لهم فقد عقلة من خنصره، كل هؤلاء كانوا في طريقهم إلى مركز التدريب، وربما التقوا بالمحاضر بعد أن التحم نصفاه وهو في كامل أناقته، البذلة، والكرافيت، والنظارة الشمسية، وسيجارته الميريت الفاخرة بين شفتيه كأن نصفه لم يرتكب جرماً.