فرانسوا باسيلي
أُبْصِرُ من شرفة القصر نيران بغداد
وأسأل نفسي
كم طعنة سوف تكفي
لكي تنزف السموات دما
وتجندل هذي البلاد؟
وتمحى خطى من مشوا فوقها
قبل أن يُكتب الإنجيل؟
بكم ألف جثة طفلٍ
سيزدحم النهر
حتى يتم العماد؟
كم مرة سوف تنتفض الأرض
ينكسر الصخر
وتنخلع الأوتاد؟
كم مرة سوف ينقسم الصفُّ
يفترق الجمع
ويجتمع الأضداد
وتسقط مملكة الرمل
تهوي بلادٌ على ذاتها
وتقوم بلاد
فأهتف من شرفة القصر :
بغداد !
صفوفٌ ..صفوفْ
من العابرين العرايا
على سور ذات العماد
خرافٌ .. خرافْ
تساق إلى الذبح
في أيّ عيدٍ من الأعياد
صار شعبي ضحايا؟
يسيرون للموت في فرح الترتيل
دفوفٌ .. دفوفْ
تدق، فيرتفع التهليل
أم هي جلجلة الأصفاد ؟!
أهزُّ الأساطير هزاًّ
فتسقط تفاحةٌ من رماد
أهتف: يا شهرزاد !
الأرض جمرٌ هنا
وأنا أعبر الليل وحدي
لا نجم .. لا قنديل
السجن في داخلي
والسلاسل في حلقي
أنا قاتلي
وأنا قاطع طرقي
كيف يسرق من نفسه
لص بغداد!
مرّ دهر من الصمتِ
ولم تأتِ شمس الحصاد
ما زال في القبر متسعٌ
لبلادٍ من الموت
نزرع موتا
ونحصد موتا
والأرض جائعة
لمزيدٍ من الأجساد
هل تموت البلاد
حين تهرم مثل البشر؟
وتموت الشعوب على يدها الطاهرة؟
ماذا يضير الفقير
وقد مال رأسه فوق حجر
لو تدوسه خيل الرشيد
أو خيولٌ من الفرس والروم
فيحمد ربّه
أنّه قد باع دنياه بالآخرة
وأنه مات لكي لا يرى الأرض
جائعةً تتلوى
تعرض في الليل أعضاءها الفاغرة
لها أن تعيد حكاياتها شهرزاد
في حضرة الملك المذهول
يخور على ساعديها
لقد صار كهلا
له جسد منهكٌ
لم يعد يرشف الشهدَ
من وردة النهد
هل تغفر الآن
ما حفرته يداه على صدرها
من جراحٍ وأكاليل ؟
أترثي له ؟
أتبكي على قاتلٍ
يتمدد في حضنها كالقتيل ؟!
لم تشخ شهرزاد
ولم يأكل الدهر منها كثيراً
فإنّ لها من مفاتنها
ما يهيج جيشين جرّارين
تنهض ملفوفة بالحرير
وتستر ما يتلألأ من قمر النهدين
تنظر من شرفة القصر
تبصر نارا
وتسمع قرع طبول
هل وصلت في الظلام الخيول
لأسوار بغداد ؟
عليها إذن أن تعيد حكاياتها
وتدّبر ما ستقول
لقائد جند المغول
حين يطلبها للفراش
أيّ شعر ستلقي عليه
تزود به عن مفاتنها
وفي أي أرغول
ستنفخ سحر الكلام
لتسحر ساعدها حيّةً
فتزحف كي تلدغ النهد
كي تصعد الروح
آمنةً مطمئنة
كم من خيول المغول
ستكفي حوافرها
لترصّع صدركِ يا شهرزاد
كم ألف ليل وليلة
ستحتاج خيل المغول
لتنتهب الجسد المتوحد بالأرض
تنثره كلمةً كلمة
في أقاصي الوهاد !
وأرفع رأسي
هل كنت أحلم ؟
أم أنها شهرزاد
تقصّ حكاياتها
وهي تسبح عاريةً في الفرات
هل سحرتني ؟
فما عدت أملك نفسي
ولا أملك الأرض والسموات
هل شغلتني عن الناس
بالشعر والسحر
فأهملت مُلكي
وأهدرت حق العباد ؟!
ما راح راح
دع الأرض تلبس زينتها
من ندى ورياحين
لتزّف إلى أول الواصلين من الجند
مفتتحاً دغلها
مجترحاً ليلها
فتئن أنين السبايا
وتخرج من شفق الجاهشين
لتدخل في شبق العاشقين
وتفنى هوىً
وهي تحضن غاصبها
وتذوب هباءً كعطر الصبايا
كأنَّ بها شهوة للمات
وتأتي – سفاحاً – بما شاء من أولاد
فيسقط تاج الحكايات عنها
وينفرط العقد منها
وتصبح جاريةً شهرزاد
جرى ما جرى
وما هو آتٍ آتْ
دع الناي ينزف
ما شاء من ذكريات
دع الأمس ينعم نوما
ويحلم حلما:
أراني بلا ورق التوت
أو ورق الكلمات
أراني كأني بلا أولٍ
وبغير نهايات
أراني كما جئتُ
ثم كما متُّ
ثم كما قمتُ بعد ممات
أراني جريحاً
طريحاً
على جسد الأرض والسموات
لا نصوص مقدسة
في كتابي
وليس على شفتي آيات
أراني وحيداً
كما حجر يتدحرج
كما غيمة تترجرج
أو ملك يتنازل عن عرشه
ويسلّم نفسه
لّليل والطرقات
أراني كما لا يراني أحدْ
تحاصرني الأسوار
أفرّ بغير فرار
تحلقّ حولي جنودٌ بغير عددْ
تقتلني ألف مرة
فأسقط ثم أقوم
مدنٌ تتعقبني
وجيوشٌ من الفرس والروم
تحثّ ورائي
طالبةً رأسي
لا مكان لآوي
أسير على حافة الكون
من أبدٍ لأبد
أسقط في نفسي
أتقلب فيَّا
كجمرٍ يؤججه الرعب والوجدْ
كروحٍ ترفرف في الليل
تنزف فوق بلادٍ مضرجة
وحدائق وردْ .
إنا عرايا
دع الليل يهوي يغطّينا
والبدر يصرف وجهه عناَّ
والأرض تفغر أحضانها كالجسدْ
كي تحتوينا
لم تعد غير أشباحنا
تترنح داخلنا
وتجرجرنا كالسبايا
من بلدٍ لبلدْ .
ما أفدح الليل في الشرق
بئرٌ من الدمع والدم
وأجداث موتى تشيّع أنفسها
وتكلّل أيامها بالسواد
ما أوحش الليل في الشرق
ما عاد سحرٌ يزيّنه
ولا شعر .. لا شهرزاد
ولا سفرٌ لبساطٍ على الريح
لا بحر
لا سندباد !
أحمل بوّابة الشرق
مكسورةً فوق ظهري
كأني أحمل قبري
وأدخل مملكة الحلم
أبحث عن شهرزاد
وعن مصر
أو عن دمشق
وعما بقي من بلاد
وأبحث عني
وعن ملكٍ مخلوع
أطوف بأودية الشرق ليلاً
كروحٍ ترفّ بلا أملٍ في هجوع
ولا أملٍ في رجوع
أجوع
وأعطش
لا بيت آوي اليه
ولا ماء
لا زاد.
………….
*صدر عن “الهيئة المصرية العامة للكتاب “