محمد مصطفى الخياط
لم يكن سعيد – أو سعدون كما اعتدنا واعتاد أهل قريتنا مناداته- مجرد جار يقع بيته، وإن شئت الدقة، بيت والده على بعد ثلاثة بيوت من دارنا، إذ صار رمزًا لقرية “الماضاوية” بكل من فيها، تلك القرية التي اكتسبت اسمها من لقب كبير عائلة “ماضي”، من زمن اختلف أهلها حوله، هناك من قال إنه أسس القرية منذ أكثر من ألف عام، وهناك من يقسم أنهم أقل من مائتي عام على أقصى تقدير، لكن هؤلاء وهؤلاء يتفقون أنه نزلها برفقة بنيه وإخوته، حيث ضربوا خيامهم في أنحائها.
كانت قفرًا لا توحي بحياة، حتى أن بعض إخوته –وكانوا يكنون له احترامًا ومهابة- ألمح إلى صعوبة العيش في أرض لا زرع فيها ولا ماء، فما كان منه إلا أن هز رأسه اعتراضًا ومضى، وفي صباح اليوم التالي جمعهم وقد شد مئزره وحمل فأسه ونادى فيهم بصوته القوي “حي على الفلاح”، وكانت هذه صيحته حين يعزم على أمر فيه من المشقة ما فيه.
ثم مضى بهم إلى بقعة غير بعيدة عن مضارب القوم، توسطها وضرب الأرض بفأسهِ ضربة واحدة قوية، ثم نشر الرجال على مسافات وطلب منهم أن يشرعوا في تجهيز الأرض للزراعة. نظروا إليه مشدوهين، لا يكادون يصدقون كلامه، إذ هم حفنة قليلة من الرجال يتوسطون أرضًا قاحلة لا توحى تربتها ولا تضاريسها أنها رأت الماء يومًا، فما كان من “الماضي الكبير” –هكذا كانوا ينادونه- إلا أن أعطاهم ظهره وراح يمهد ويقسم نصيبه من الأرض، فتبعه بنوه وإخوته وأبناؤهم وهم كارهون.
مضت ستة أيام وهم على هذه الحال، كارهون في الخروج صباحًا، مُكرهون في العمل طوال النهار، يائسون وهم يجرون أجسادهم المنهكة قبيل غروب الشمس إلى خيامهم القريبة، حيث تنتظرهم زوجاتهم وبناتهم، ولولا الهيبة والحياء لظنوا بالرجل الجنون، خاصة أنهم في اليوم السادس –وبأمر منه- وزعوا ما معهم من بذور في أنحاء الأرض، ثم طلب منهم قبل أفولهم عائدين أن يتيمموا استعدادًا للصلاة، إذ لم يكن تبقى معهم من الماء إلا القليل، ثم صلى بهم ركعتي شكر لله وانصرفوا عائدين.
وفي صباح اليوم السابع أخذهم الماضي الكبير ووقف وسط الأرض الشاسعة الممتدة عن يمينهم ويسارهم، ثم نظر في عيونهم فوجد فيها من الضيق والتبرم ما يكفي، فابتسم ونادى أكبر ابناءه، وكان أكثرهم شبهًا به، جسمًا وصورة، وقال له آمرًا، بعد أن ضرب بقدمه الأرض “أحفر هنا”، فألقى الشاب الذاهل جلبابه عنه، فظهر ساعدان مفتولان صُبا من نحاس، وراح يحفر وإخوته وأعمامه من حوله وقوف، حتى إذا ما أخذ منه الإجهاد جاء آخر فأكمل، وهكذا حتى جاء أصغرهم فضرب ضربة على قدر جهده فاندفع الماء كأنما شلال، يجري في أنحاء الأرض المقسمة، يسقي نواحيها وأطرافها وإذا هم ذهول لا يصدقون أعينهم.
وتحول ما كان حفنة من خيام إلى قرية كبيرة تتسع رقعتها ويقصدها الكثيرين، ومن يومها حملت اسم قرية “الماضاوية”، نسبة للماضي الكبير، وصار لها سوق كبير يُعقد كل يوم أحد يقصده القاصي والداني، وكبرت الأرض أضعافًا مضاعفة وانتشرت فيها آبار المياه، وتحولت الخيام إلى دور بالطوب اللبن، تحيط بيت الماضي الكبير بحجراته الكثيرة وفناءه الواسع ومن خلفه برج حمام يظلل القرية كلها حين يطير.
مرت الأيام، وتعاقبت الليالي، ورحل الماضي الكبير ومن خلفه إخوته وابناءه، منهم من عاش ودفن بالقرية خلف التلال البعيدة إلى جوار الكبير، ومنهم من هاجر إلى قُرى مجاورة وأخرى بعيدة، وصاروا ذكرى ورمزًا، يقول الواحد من أهل قريتنا في معرض حديثه “ولا كرم الماضي الكبير”، تعبيرًا عن كرم الضيافة إن نزل ضيفًا أو زائرًا، وتسمع أحدهم يقول “ولا يوم من أيامك يا ماضي” حسرة على زمن فات وشكوى من زمن حاضر.
حاضر سعدون -رجل النشوق والارتقاء- الذي أصبح الكثيرين –من أهل القرية وخارجها- يطلقون اسمه على شارعنا، الذي لم يكن له اسم، إلى أن جاء يوم أظنه وأنا في الصف الثاني أو الثالث الإعدادي عندما شاهدت موظف البلدية يدق أربعة مسامير صلب في الزوايا الأربع للافتة صاج زرقاء، بمساحة صينية الشاي في بيتنا، وقد كُتب عليها بخط نسخ أنيق “شارع الوابور”، نسبة إلى مبنى كالح كئيب كسا طوبه الأحمر –من الداخل والخارج- هباب وابور النور، الذي كان يعمل بالسولار، ويمتلكه الحاج “أبو النور” والد سعدون، ولا أعرف إن كان اسمه هذا راجعًا إلى امتلاكه وابور النور أم أنه لقب ورثه أبًا عن جد، فقد كان هذا الأمر وكثير من الأمور مما كنا نأخذه كمسلمات، لا نشغل بالنا بها ولا بأسبابها، تناقلها أهل القرية جيلاً بعد جيل، دون أن يضع أحد منهم بعدها علامة استفهام واحدة.
وهكذا تستطيع أن تستشف عزيزي القاريء أن قريتنا صارت مثالاً لذلك النموذج المسالم من البشر المولع من علامات الترقيم بالفاصلة، الكاره لكافة علامات الاستفهام، بعد أن كانت تزرع في الماضي علامات استفهام بعدد أعواد القمح في فصل الصيف، وعدد عيدان القطن في فصل الشتاء، علامات استفهام حولت قريتنا من صحراء إلى أرض زراعية، ومن حفنة خيام إلى قرية تتقاطع شوارعها وتتمدد، وفي كل واحد منها علامة مميزة، محطة سكة حديد، وموقف سيارات، وسنترال، ومدارس، ومعهد أزهري، ومستشفى.
أجيال خلف أجيال، مشيت في هذه الطرقات إلى أن استقر بها المقام هناك، بعيدًا خلف تلك التلال الواقعة على تخوم البلدة، حيث تقع المقابر أو الجبانة، كما اعتاد أهل القرية الإشارة إليها، يحجون إليها في المناسبات أو كلما فقدوا واحدًا منهم، ولعلك تعلم، سيدي القاريء، كما أعلم أنا اختلاف حال المشيعين في الذهاب عن الإياب.
كان التأثر والحزن يغلبهم في الذهاب، ويرون في كل الأحوال –كبر سن الفقيد أو صغر- أن الموت اختطفه منهم اختطافًا، فيبكي من يبكي، ويدمع من يدمع، ويمصمص الشفاه من يمصمص، حتى إذا ما انتهوا من مراسم الدفن، ونفضوا التراب عن ملابسهم وإيديهم، وانصرف طابور المعزين، عادوا سيرتهم الأولى يصخبون ويضحكون ويتغامزون ويتلامزون ويتناكفون ويتجادلون حتى يكاد يصل الجدال بهم إلى ذلك الشقاق المقيت، الذي يوشك بعضه أن يتسبب في عودتهم إلى طريق المقابر مرة أخرى.
ولعلك سيدي القاريء تتساءل عن علاقة سعدون بهذا كله، والحقيقة أنه قلب كل هذا، فسعدون الذي حاز لقب شيخ لدراسته في المعهد الأزهري، لم يتمكن من الحصول على الشهادة الإعدادية، وإن التصق به لقب شيخ لعدة سنوات بعد ما احتفظ بالعمامة الأزهرية لسنوات أخرى، ثم خلع لقبه هذا مع عمامته واستبدل الجلباب بالقميص والبنطلون.
وكان أبيه قد بذل محاولات مضنية لإعادته للدراسة دون جدوى إلى أن استسلم لقرار ابنه وألحقه معه بتجارته الواسعة من أراضي زراعية تؤتي أُكلها كل حين، ووكالة كبيرة يبيع فيها من كل صنف، ومحال يؤجرها، فضلاً عن وابور النور، الذي أخذ شارعنا اسمه منه، وصار ذكرى بعد أن امتدت شبكة الكهرباء إلى قريتنا ونثرت بها أعمدة الإنارة.
ثم سار سعدون على ما سار عليه الكثيرين من أهل القرية، فتزوج ورزق بالبنين والبنات واتسعت تجارته، وصرنا نعرف متى يذهب إلى الوكالة ومتى يعود ونحن داخل بيوتنا، ذلك أنه اشترى سيارة يستخدمها في ذهابه وإيابه، ولأنها كانت السيارة الوحيدة، صرنا نعرف خروجه وإيابه من صوتها.
إلى أن جاء يوم استيقظنا فيه ورجال تعلب صاحب محل الفراشة يملئون الشارع صخبًا وضجيجًا، فظننا أن هناك فرح لأحد أولاد سعدون، حتى إذا ما نظرت من الشرفة وجدتهم يصنعون بوابات من قوائم خشبية متتالية تزينها الأعلام الملونة بطول الشارع، تبدأ من أمام بيت سعدون وتمتد إلى ميدان القرية، ورجال سعدون يشرفون عليهم ويوجهونهم، حتى إذا ما انتهوا من إحدى البوابات علقوا عليها لافتة كبيرة تتوسطها صورة لسعدون، مرة مرتديا بدلة وكرافتة، ومرة جلبابًا أبيض يعلوه عباءة من صوف فاخر، ومرة يقف إلى جوار مأمور المركز، وصور أخرى كثيرة، وعلى جانبي كل صورة شعارات من قبيل، انتخبوا رجل البر والتقوى، وغيرها من شعارات يعلم الجميع أنها لزوم الترشح ليس أكثر، شعارات يلصقها المرشح بنفسه كما ألصق سعدون لقب شيخ باسمه، دون أن يحمل شهادة.
وحتى لا تظن بي الظنون، وتعتقد أنني متحامل على الرجل، فقد كان بقدر فشله في التعليم ناجحًا في التجارة، أما كيف نجح؟، فهذا أمر لا أدعي معرفة به، فقد ذكر بعضهم أن هناك شبهات أنكرها آخرون، فقررت أن أقف موقف المحايد من هذا كله وآخذ الأمر بالظاهر واتجنب الحديث عن تجارته.
على الجانب الآخر، ولمعرفة عن يقين أستطيع أن أخبرك أنه يرى نفسه يفهم في كل شيء، أو كما يقول رجل الشارع “سيد العارفين”، ولا أدري إن كان لهذا علاقة بعدم حصوله على شهادة أم لطبيعة فيه، المهم أنه لم يكن يتحرج من الحديث في أي موضوع، بداية من كيف التقى آدم وحواء إلى أزمة الصواريخ الكوبية.
فكان إذا حضر مجلسًا وذُكر فيه أمرًا ما، أنصت قليلاً، ثم أدار الكلام في رأسه فقربه إلى فهمه أشد ما يكون التقريب، وبمعنى آخر سطحه إلى فهمه أشد ما يكون التسطيح، إذ لم تكن معرفته بعموم الأمور إلا قشورًا أقرب لورق شجر الخريف، جافة لا تصلح إلا للحرق، تذروها الرياح وتدهسها الأرجل، وكم من مرة جرت إليه تعليقاته تلك لمز أولي اللمز، وما ارتدع، وكان إذا ما استشعر أنه دخل منطقة خطأ سارع ورفع صوته وحول دفة الحديث بعيدًا أو أصر على أنهم يخلطون بين ما يقول وما يقولون.
ولعل من أطرف وقائعه، أنه دُعي مع نفر من صحبه إلى حفل عشاء، أو عزومة كما نطلق عليها في قريتنا، في بيت أحد الأصدقاء، وبينما هم جلوس حول المائدة العامرة بأطايب اللحوم أحمرها وأبيضها إذ تَصَدَرَ شاشة التلفاز رجلٌ ذا هيبة ووقار، تبدو عليه سيماء العلم، هادئًا حتى لتشعر أن العلم استقر عنده، وأظنك ستوافقني الرأي حين تعرفه، إنه الدكتور مصطفى محمود في برنامجه العلم والإيمان، وكان يتحدث في موضوع تكرر فيه اسم عالم انجليزي يدعى داروين مختلطًا بمصطلحات من تلك التي يستخدمها علماء الأحياء والجيولوجيا، وإن تكرر فيها كلمتي “النشوء والارتقاء”.
وهنا لم يملك سعدون نفسه، وظن أن الكرة جاءته تتهادى في ملعبه تنتظر أن يقذفها بقدمه بأقصى ما يستطيع لتسكن زاوية المرمى وسط آهات المتفرجين، ولما لا وهو صاحب الوكالة الكبيرة، التي تبيع كما كتب أعلاها من الإبرة إلى الصاروخ، ولا أعرف إن كان أحد أهالي القرية تجرأ وطلب صاروخًا من تلك الصواريخ المزعومة أم لا، وهكذا كنت كلما قرأتها ابتسمت، وتخيلته يناولني أحد تلك الصواريخ النارية التي يلهو بها الأطفال في رمضان والأفراح.
المهم، أن سعدون رجع بظهره للخلف، ثم مد يده ناحية كوب الماء فازدرد منه مقدارًا جلى به حنجرته، ثم تنحنح، وراح يتحدث حديث خبير عن “النشوق” وعلاقته بالارتقاء، إذ ظنه ذلك المسحوق الذي يبيعه في وكالته في أكياس ورقية صغيرة، يقبض منه أهل الكِيف قدرًا يسيرًا بمقدار ما يقبض الإصبعين السبابة والإبهام، ثم يدس هذا المسحوق في أحد فتحتي الأنف ويستنشقه بقوه، فلا يلبث يعطس عطسة قوية يرتج لها جسمه، ثم يكرر فعله هذا مع فتحة الأنف الأخرى، فتتكرر رجته، ثم يمضي إلى حال سبيله وقد شعر بفواق ونشاط عجيبين.
ولا أخفيك سِرًا أن الموضوع كان سيمر مرور الكرام، فمعرفة المتحلقين حول طاولة الطعام بداروين ونظريته لا تختلف عن معرفة سعدون به، ولو كنت طلبت من أحدهم أن يكتب كلمة “نشوء” التي كررها الدكتور مصطفى محمود في حديثه غير مرة، ما كان أي منهم ليتردد في كتابتها بالقاف بدلاً من الهمزة.
ولأن الساحر لا يؤتى إلا من مكمنه، فقد كان وسط هذه الزمرة المتقاربة في ثرائها من المال والأملاك وجهلها بالعلم شابٌ يدرس في المرحلة الثانوية، اصطحبه أباه معه، بعد ما علم أن سعدون سوف يصحب ابنه معه، والولدان بحكم السن والدراسة أصدقاء، فجلسا على طرفي الطاولة منشغلين بحديثهما معًا عن حديث آبائهما وأصحابهما، إلى أن رن في أذن ذلك الشاب صوت سعدون يتحدث حديثه هذا عن نشوقه، فصمت وتوقف عن المضغ، وما هي إلا لحظات وبينما سعدون منطلق انطلاق السهم في الرَمِية، يشرح ويعلق كيف ترتقي الدماغ في سماوات الخيالات بعد استنشاق مسحوق النشوق، حتى نظر الشاب إلى صديقه، ابن سعدون، نظرة أفلتت عيار كل منهما، وانفجرا ضاحكين غير آبهين بما حولهما وقد طار الطعام من أفواههما حتى بلغ آخر الطاولة، فنهرهم الحضور نهرًا شديدًا، لكن هيهات لأي منهما أن يكُف، وانقلب المشهد من ضحك فوضوي أقرب منه إلى مسخرة لم تهدأ إلا بانسحاب –بل قل هروب- هذين الشابين من دون استئذان، جرى كل هذا وسعدون ورفاقه غير قادرين على فهم ما يجري.
ولا أظنك سيدي القاريء تحتاج أن أخبرك أنه ما أن ارتفع ضوء نهار اليوم التالي إلا وقد طافت القصة ببيوت ومقاهي ومجالس عزاء وأفراح قرية الماضاوية، وصار زملاء ابن سعدون يمازحونه وينادون عليه “نشوق” بدلا من اسمه، وقد يزيد أحدهم فيسأله ضاحكًا وأخبار أخوك “ارتقاء” إيه، والشاب يجاريهم في ضحكهم ولهوهم، فقد كان أدرى بأبيه منهم، ولو كان عليه لقص عليهم من نوادر أبيه ما ينسيهم حكاية النشوق هذه.
وأظنك كذلك يا سيدي، لا تحتاج أن أخبرك بنتيجة ترشح سعدون في الانتخابات، ولا باللقب الذي لازمه من بعد هذه الواقعة، فقد ذاع صيت سعادة نائب النشوق والارتقاء في قرية الماضاوية والقرى المحيطة بها، وقيل أنه وصل أطراف المدينة، وبالغ البعض بأن أقسم بأن المدينة تعرفه كما نعرفه نحن أهل القرية، وهكذا سيدي القاريء نسي أهل قريتنا الماضي الكبير وانشغلوا أو شُغلوا بسعادة نائب النشوق والارتقاء، حتى أن بعضهم فكر في استبدال اللوحات الخشبية الكبيرة المنتشرة على مدخل الطريق الزراعي بأخرى معدنية ويكتبوا عليها باللون الأبيض على خلفية زرقاء بلون السماء “قرية سعدون” بدلاً من قرية “الماضاوية”، صحيح أن الشمس أكلت طبقات من الألواح الخشبية وأسقطت بعض ألوانها، لكن أي شخص ينظر إليها يستطيع بسهولة أن يستشف اسم القرية.