تكتب المؤلفة الموسيقية نهلة مطر على الورق الأبيض وعلى النوتة الموسيقية في آن، لتُخرج لنا تجربةً فريدة في كتابٍ مرفقٍ باسطوانةٍ موسيقيةٍ تحوي مقطوعاتٍ من تأليفها، تعزفها آلات الفلوت والفيولينة والتشللو. فقط. وتدعونا في هذه التجربة للإنصات إلى تسطيرها، الذي تجمع فيه لقطاتٍ غير مرتبة لتجربةً امتدت عبر سنوات، للتعرُّفِ على الذات. وهوتعرُّفٌ يسبب لها -ولأي شخصٍ آخر- الهلع. فلا شيءٌ أكثر رعبًا من مقابلة الذات وجهًا لوجه، من التعرف عليها وسبْرِها وإخراج خبيئتها التي تخفيها حتى عن ظلها -أنا وأنتِ وهو- فلكلٍ منا ذاتٌ موازيةٌ لتلك الجبلَّة الخارجية، التي تبدو مسيطرةً على زمام الأمور، ولكنها في الحقيقة مجرد قشرة، وصدى.
وعند مواجهة اللُّب الذي تخفيه هذه القشرة، وعند الإنصات إلى الصوت الأصلي الذي يتردَّدُ عنه ذلك الصدى، ينتابنا الهلع. فقد كنا نظن منذ الميلاد، أنا ما نراه أمام المرآة وفي عيون الآخرين هو ما نحن عليه، وهذا كل شيء. ليتضح أن هناك ما هو أكثر من ذلك. هناك طاقةٌ كامنة، تنتظر شرارةً لتشتعل بالنور، أو لتنفجر بالغضب.
نقابل ليلِلث في نص نهلة مطر، وكأننا نراها للمرة الأولى، مع أننا نعرف أنها هنا منذ الأزل. تقول الأسطورة أنها زوجة آدم الأولى، التي خُلقتْ مثله من أديم الأرض، فلم ترضَ أن تسير وراءه، وقررت أن تسير إلى جواره، فعوقبتْ ونُفِيَتْ، وأَخذتْ حواء المخلوقة من ضلع آدم مكانها. كما خلَّدتها أساطير بلاد الرافدين في صورة شيطانة الريح والعواصف.
“تولد ليلِلث مع كل امرأة، لكن القليلات هن اللاتي يعرفنها داخلهن”. هكذا تقرر نهلة وجودها تحت الجلد وفي الأحشاء وحجيرات القلب وتلافيف العقل. ولذلك فإن خروجها في شكل طاقةٍ مجردةٍ تشق كل تلك الأنسجة المحبوكة بدقةٍ وصرامة يسبب الألم، والهلع.
وهنا تتلقفنا نهلة بالفلوت والفيولينة اللذان يصرخان بهذه المخاوف، بينما يظل التشيللو العظيم “رابط الجأش”. المشكلة في ولادة ليلِلث أنها لن ترضى بالبقاء مع حواء جنبًا إلى جنب، فالقبر الفارغ ينتظر جثةً ما.
ليلِلث مرسومة في شكل دائرة، يمكنك أن تتعامل معها بانسيابية، مثلما تترك نفسك لهدهدة الكون. تحويلها إلى مربع ذي خطوطٍ حادة مقطعة بزوايا مدببة سيجرحكَ أنتَ أولاً، فلا تفعل. ليلِلث مياهٌ “تحفر مجراها.. تتشرَّبُ ما يمر بها.. تقترب.. تبتعد.. لكن لا حدود”، أنتَ الذي تُحوِّلها إلى “نهر رفضتَ الاغتسال فيه.. النهر الذي حدَّك.. نهرٌ عذب رغم التقائه بمالح”.
يعزف الفلوت أحيانًا منفردًا، يثير الغريزة الكامنة، فتتحرك الفيولينة ويتبادلان الأصوات المرتبكة، في طقس التعرُّف.
وهنا ينضم رهاب المرتفعات إلى هلع الاكتشاف. ألم التماسك مع جاذبية السقوط الحر. قوةٌ ذات عزميْن في اتجاهين مختلفين، تسبب الدوران حول محورٍ واحد. فإمَّا فتحٌ وإمَّا إغلاق، إمَّا لقاءٌ وإمَّا فراق.
وتدركنا نهلة بأسطورةٍ أخرى للفقد بعد الإيجاد، أسطورة إغريقية عن أورفيوس المغني وعازف القيثارة، الذي يفقد حبيبته يوريديس بالموت، فتسمح له الآلهة أن يهبط إلى لعالم السفلي ويسحر كل من هناك بغنائه حتى يعثر عليها، ويُسمح له باصطحابها شرط ألا يلتفت أحدهما إلى الخلف أثناء خروجهما من عالم الأموات. ولكن أورفيوس ينقض الشرط بعد عبوره عتبة العالم السفلي بخطوة واحدةٍ، لتختفي يوريديس التي لم تكن قد عبرت بعد إلى الأبد. وتتجسد هنا اللعنة الدائمة التي تتلبس العنق الملتوي أبدًا إلى الماضي، والعينين الناظرتين أبدًا إلى المفقود، بسبب اللهفة، ربما!
“تمتزج الفلوت والفيولينة والتشللو في هدوء وتنافر … تحت سطح الوعي.. وها هي بداية ارتفاع”، ومن يُخرج ما تحت سطح الوعي إلا طبيب؟ الولادة تحتاج لطبيب، لا لشيء، فقط ليقطِّب الجروح.
وبالنسبة لليلِلث الوليدة، وكأي وليدٍ يتشبث بالحياة فيأخذ نفسًا من الهواء معلنًا مشاركته في الكون ثم تنبعث منه صرخة الميلاد، “يتداخل العام والخاص”، وتصرخ روحها: “لا أُسرق”.
وفي صراع ليلِلث للسيطرة على انفعالاتها تتداخل الحقيقة مع الخيال. ويصمت كل من الفلوت والفيولينة، ينتظران، ويعزف التشيللو منفردًا. ولا يتعايش غرورها مع غرور آدم، وتبدو كالوحش حين تتوهم اقتلاع الذكرى.
تدرك ليلِلث بعد زمن أنها موؤودةٌ تُبعث إلى الحياة، وتتأكد من حضور وعيها بسؤالها: بأي ذنبٍ قُتِلتْ؟ ويهبها البعثُ الغرور. وبعد ضمة القبر تتلقفها سعة الكون، لتصنع منه -على براحه- المكانَ الحاوي.
تقف ليلِلث عند باب الجنة لتلفظ تعويذتها: “أنا لستُ منك.. ولا من ضلعك.. أنا أنتَ.. الطبيعةُ التي تهابُها”… “ليلِلث لا تيأس.. ليلِلث لا تغضب.. بل تتذكر!”.
وبعد تدوين وعزف لقطاتٍ من الرحلة، تكتب نهلة في مقدمتها: “إن كنتُ تعلمتُ شيئًا، فقد تعلمتُ السكينة والصبر والتفاؤل، وأني لستُ وحيدةً في هلعي، بل متفردةٌ في طريقة الكشف عنه، علَّ نفسًا أخرى تستأنس بهذا النص من وحشة الثبات وتنطلق في رحلة المعرفة.. فهلاَّ أنصتَّ إلى تسطيري!”.