قراءة لمتتالية “تماس مع الوحدة”
دينا علي
عنكم ..عن مرتكبي أسوا الأعمال خلف الأبواب المغلقة ..عن الواعظين التائهين وعن الوعاظ مرتكبي الفواحش ..عن المختلين والمهووسين والمرتعبين ..عن المختبئين من ذواتهم والمتحللين من ماهيتهم ..عن شواذ الميول والتصرفات ..عن بشر نقابلهم وليس لدينا أدني فكرة كم مضطربين هم ..عن التعساء في كل مكان ..عن الفارغين محكمي الأقنعة حول رؤوسهم ..عن قوم أخلاقهم للاستعمال الخارجي فقط ..عنكم أيها المزدوجين وعن خفافيشكم الراقدة في الأقبية..عنكم.
تماس مع الوحدة... العمل الثاني للقاصة هبه بسيوني بعد المجموعة القصصية "بانتوميم" . والصادرة مؤخرًا عن دار روافد، والتي كانت قد حازت على جائزة الثانية للمسابقة المركزية لقصور الثقافة كأفضل مجموعة قصصية..
جاءت القصص القصيرة دفقات شعورية مقتطفة، مترابطة و متجاورة في إحكام. فالشخصيات تربط بينهما خطوط قوية وواهية لكنها في النهاية ترغم خيال القارئ على تجميعها كأقصوصات إنسانية ...كقطع البازل .
لغة المتتالية كانت خادمة للنص بشكل كبير ، فالكلمات كانت تنقل الشعور الإنساني بخفة و ترمز للفكرة بثقل .
تنتقل من سطر لسطر بقفزة كبيرة في الحكاية ، لا تجرؤ أن تغفل كلمة .
تبلور بداخلك حس الحكاية... لكنها لا تجزم أبدا بخطوط شخصيتها و تقاطع أحداثها ولا مغزى ختامها ..
أغلب القصص تتمحور حول علاقة الرجل بالمرأة ، خاصة فكرة الزواج و فتره ما قبله ، نظرة المجتمع لمنظومة الزواج و كيفية التعامل معها.
روح الموسيقي تعزف بالكتابة بعيدا، كانت طاغية، فالمزيكا في الإهداء و لم تخل قصة من حضور موسيقي ..راقصات الصندوق الموسيقي ، النقر بالأصابع ، شخللة الخلخال و أغنية محمد منير .
..و عشرة خطوط ، و ضغتطان ، ستة عشر لونا ، و عبد واحد، سبع طبقات ..
واو العطف ، الأرقام و المفاتيح السرية تخللت كل عناوين المتتالية في تناغم واضح و رمزية تجعل الفكر في اضطراب دائم و محاولة لفك رموز المتتالية .
تناولت الكاتبة أيمان الناس بالخرافات بشكل كبير..مثل استخدام دم الوطواط لعدم إنبات الشعر، شرب دم الترسة لعلاج تأخر الحمل و نكز إبرة في المكنسة إرغام أحد على الرحيل ووضع صورة شخص خلف السيفون لكي يرجع!
المتتالية في مواجهة صادمة مع ثوابت المجتمع خاصة في نظرته حول القيم و المرأة و قولبته الأخلاقية لها و إعدادها فقط من أجل التزاوج.
........
منذ صغرها تلاحظ أن أباها لا يجاور أمها ..لا في مشيهما ولا في أي مكان.. دائما يتقدمها ولايمسك بيدها..تراها تنظر لأيدي العشاق المتشابكة بحسرة .. يتقدمها.. خطوة بعيداً..دائماً خطوة.
النظافة الشخصية شئ هام بالنسبة لها الله لايقابل سوي الفتيات النظيفات ..النظيفات من كل شئ من اللمس .. الكلام الفاحش .. الذنوب.. لذلك تقضي يومها مبتعدة عن كل مايلوثها لأنها ليست سعيدة إلي الدرجة التي يمكنها معها احتمال الجحيم.
..............
"تماس مع الوحدة" في تماس مستمر و واضح مع الرغبة و أظهر فصول الشهوة و كيف تسري في عقول و تصرفات الناس و كيف تتلاعب بالأحداث و الشخصيات .
كما تم تناولها في جرأه و انسيابية، رسمت اختلاف الشعور بالرغبة من إيف الفتاه المسيحية ..للشاب الملتزم ... للطبيب الشرعي الذي يمارس الجنس مع الموتى و المدرس الموسيقي و طالبته .. بلغة حساسة و عميقة و سلسة تحسب للقاصة .
.................
حلمتاها تؤلمانها.. تلتهبان لأقل سبب ..عرفت مؤخراً أنه شعور ممتع أن تلمسهما لكنها بعد فترة توقفت لا تريد أن تشعر بالسعادة وحيدة تريد أن تلمسهما يد أخرى ...
يعرف مؤخرات سيدات الحي جميعاً .. عمله في منطقة شعبية أتاح له ذلك ..يعمل ك" صيدلي" إعطاء الحقن لسيدات سمينات جزء من عمله اليومي ..المناطق الشعبية تمتلئ بالمريضات اللاتي لا يستنكفن عن تعرية أفخاذهن أمام أي رجل بأريحية تامة طالما يرتدي " البالطو الأبيض " وأحياناً لو لا يرتديه ..أي شخص يقف بجانب العلب الملونة.. أي شخص يقف وراء " الكاونتر" هو بالتأكيد محل ثقة مطلقة .
الحقيقة الصغيرة الفائتة عليهن أن قسم يمنعه أن يقفز عليهن ..لاحظت إحدي السيدات كيف ينظر لإحدي الفتيات بالشارع فسألته وهي تغمز : عاجباك
.......
في النهاية نجحت متتالية هبة بسيوني في وضع جميع الشخصيات كالمانيكان بين شاشات العرض بلا شفقة أو انتقاد، و كمقص يخترق قماشة حريرية انتزعت كل الشخصيات من أمكانها لتزرعها في قصص أخرى ..
لتكتمل صورة ناقصة أو لتنتقص صورة كانت تبدو مكتملة و كاملة في نظرك !
فالكاتبة رغم تناولها لشخصيات مضطربة وغير سوية، تراهن القارئ أنه سيجد نفسه حتما بين أوراق القصص و تقول : متتالية قصصية كلنا واحد وإن اختلفنا في الظاهر ونحن أسوأ مما نعتقد..الطريف أنك ستضع الكتاب من يدك وأنت أحد الشخصيات وتحمد الله أنك لست هناك!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وكاتبة مصرية