سمر مجدي
يحدث إن نتوه قليلًا ونحن على علم بذلك ولا بأس لإننا سرعان ما نبحث عن طريق ينتزعنا من الضياع ويعيدنا إلى سكينتنا. ولكن أن تتوه دون أن تدري فتلك هي المعضلة، حين تبحث عن شيء لا تعلمه ولا تعلم أنك تبحث عنه من الأساس فأنت فقط تعيش بصدق، تنفر من الأماكن التي تشعر أنك لا تنتمي إليها، تفارق أناس هم أقرب للكمال في عيون المجتمع من آخرين محاطين بك وتتشبث بهم، تضجر من حياتك دون توق لأخرى، لأنك ودون أن تدري تبحث عن شخص هو الأهم لك بالتأكيد لأنه أنت!
هذه الحالة من التوهان الذي تتقن طرقها الكاتبة عزة رشاد لتسرد لنا في رواية ذاكرة التيه حكاية بطلتها سحر بداية من طفولتها في خمسينيات القرن الماضي مرورًا بمراحل حياتها المختلفة، حيث نكتشف أنها تبحث عن ذاتها دون دراية لها بتلك الرحلة ماهي، وكيف بدأت، وإلى أين يجب أن تنتهي، وما هو هدفها؟.
لم تكن سحر بطلة الرواية من المقهورات اللاتي عانين من ذكورية المجتمع فأقحمها ذلك لخوض معارك تنتصر فيها الحرية من أجل العيش، ولم تكن من المرفهات اللاتي وهبتهن الحياة فسحة من الوقت أو الأفراد يتعرفن بهم إلى القضايا الاجتماعية النسوية، ورغم إغفال الكاتبة لتلك الأدوات إلا أنها استطاعت أن ترصد بشكل أساسي قضايا المرأة بشكل غير مباشر وبدون تلك الشعارات المتعارف عليها، فإذا بها ترصد تلك القضايا الاجتماعية من خلال معايشة لحياة امرأة تنتمي لما يسمى بالطبقة المتوسطة، شخصية تتشابه مع أغلبنا فيصيبها الضعف إلى حد الرعب في مواقف، وتعصف بها القوة في مواقف أخرى حتى لتظن أنها قادرة على أن تترأس مجموعة من الأفراد وتخوض المعارك ليضربها الخور وتعود من ساحة القتال خائبة وهكذا يسبح بها موج الحياة، إلى أن يهديها صدقها مع نفسها لهديتها العظمى وهى أن تعثر على نفسها وحينما تجدها تتفتح لها أبواب الحياة ليس لشيء وإنما لإنها تبينت مواطن سعادتها واهتدت بنفسها إلى الحب الحقيقي وليس سد رمق لاحتياج عاطفي.
“الدخول إلى الماء كالولوج إلى مملكة الحب… لابد أن يتهيأ المرء له, أن يتجرد من كل شيء, أن يستسلم كليًا واستثنائيًا للزخم الزاحف نحو القلب“
من القضايا التي اهتمت بها الكاتبة في بداية الرواية وختامها تشويه الأعضاء التناسلية للنساء والمتعارف عليها بختان الإناث تناولت تلك القضية بإسلوب يتسم بالرمزية أحيانا من دون إخلال ووضوح لا نجرؤ لنقول إنه فج. ومن تلك القضايا أيضًا محاولات الأخوين لتشكيل حياة البطلة وطمس شخصيتها وإلغاء قراراتها المتعلقة بحياتها هي. كما نلمح الاضطرابات التي تهدد الأم فتدفعها للهرب خارج البلاد واشباع رغباتها بالكثير من الذهب. وفي خضم تلك القضايا وقضايا أخرى ترتبط بالمرأة بشكل أساسي لم تغفل الكاتبة ان تتناول حتى ولو بشكل ثانوي بعض التابلوهات المتوارثة عن الرجال.
“كان تصوره عن الرجولة يتضخم فلا يدعه يصغى لتصورات أخرى. رجلًا أي خشنًا فظًا مترفعًا عن الصفات الجوهرية للإنسان.”
ترصد من خلالها معاناة الصديق المقرب لسحر منتصر وذك لامتلاكه مشاعر مرهفة يحرمها المجتمع على الرجال، تلك المعاناة وذلك الضغط النفسي الذي وصل به إلى حد وصل معه للشك في رجولته! كما ترصد محاولات توريث الآباء حياتهم لأبنائهم حتى وطمس شخصياتهم.
وفي ثنايا كل تلك القضايا رسمت الكاتبة بكلماتها ملامح الحياة الاجتماعية في تلك الحقبة وتأثير الحرب على المشاعر كما في حالة الأب، وعلى المال كما في حالة الخال. في إشارة للسفر إلى الخليج وتبعيات ذلك في أولاد المسافرين وتصديرهم إلى مصر مرة أخرى ولكن في قوالب خليجية محملة بثقافة وهوية مجتمع آخر.
تقول على لسان بطلتها:
“ذلك هو سري معهم، ذلك هو شبهي بهم، أولئك الذين يجافيهم النوم ويبقون عالقين في سماوات الحلم البعيدة، لأنهم يمقتون أن يكونوا صوراً أو ظلالاً، لأن كل منهم يحاول أن يجد مساره الخاص، حتى لو ألقت به حقيقته الخاصة إلى أكثر الطرق وعورة، لأنهم يدركون أنهم ليسوا من العباقرة، ولا يمتلكون أية مزايا خارقة، بل على العكس يتيقنون من غباوتهم وسطحيتهم في كثير من المواقف ويعرفون ضآلة إمكانياتهم، لأنهم حين يفرحون قد يموتون فرحاً من أشياء لا يجدها الآخرون ذات معنى وحين يحزنون لا يجدون من يتفهم أحزانهم، لأنهم حتى لو قيدت أطرافهم إلى الأرض تظل أرواحهم طليقة، لأنهم حين يحدقون بالمرايا لا تفتنهم صورهم الجميلة قدر ما يفاجئهم قبح دواخلهم، لأنهم ينصتون جيداً لأصوات أحلامهم، لأنهم رغم اعتزازهم بذواتهم وحيطتهم يتعثرون وينكفئون ثم ينهضون في الغالب، لذلك يراهم الآخرون سائرين على أذرعهم محلقين بسيقانهم في الهواء، ويظنهم البعض مجانين، لأنهم لا يكفون عن البحث عن معنى لحيواتهم، لأنهم منذورون للحلم ومسكونون بالتساؤل يسمونهم النجوم الشاردة“.
وهكذا استطاعت عزة رشاد أن تسرد كل تلك التعقيدات والقضايا بشكل سلسل يخلو من الكلام النظري وإنما هي معايشة تحمل ملامح خاصة للأماكن بمزيج من المشاعرالصادقة، ولعله من اللافت للنظر أن تلك الرواية رغم أنها تدور في القرن الماضي وصدرت عام 2003 إلا أننا إذا بحثنا عنها على المواقع المختصة بآراء القراء حول الروايات والكتب (مثل جودريدز) سنجد الكثير من التعليقات تشير إلى ذلك الشبه الذي يجده القراء بينهم وبين سحر بطلة الرواية، إنه ذلك الشعور الممتد خلال تلك الفترة من الزمن رغم تغير شكل الحياة الاجتماعية بفعل عنصر الزمن، مما يعكس تناول الكاتبة للقضايا بعمق حيث رصد دقيق وصادق للمشاعر والأفكار بعيدًا عن التناول السطحي للأحداث، وجعل القراء على اختلاف ثقافتهم وربما طبقاتهم الاجتماعية يتوحدون مع تلك البطلة وهذه الحكاية، ويشعرون أنها تعبر عنهم بكل صدق.
وتبقى واحدة من عبارات الرواية تتردد في ذهن القراء “رغم كل شيء لازلت ممتنًا لهذه الحياة التي مع كل مرارتها تبقى جميلة“
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية