قراءة في كتاب “لماذا يكره المثقفون بعضهم” لجمال حسين علي

رحاب إبراهيم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رحاب إبراهيم

“هذا الكتاب مثقف جدا فاجتنبوه!”

بهذه العبارة يستهل الدكتور جمال حسين علي كتبه الجديد “لماذا يكره المثقفون بعضهم” الصادر عن دار صوفيا للنشر بالكويت 2023.

منذ قرأت عنوان الكتاب قررت البحث عنه، ربما أفهم بعضا مما يحدث في دوائر المثقفين والذي انعكس بشكل واضح على تراجع دور الثقافة وتأثيرها في المجتمعات العربية.

رغم الجهود والتمويلات والجوائز والمؤتمرات، فإن أثر الثقافة ينعكس على الناس في لغتهم اليومية، تفضيلاتهم من الأغاني والأفلام والملابس والطعام، حتى الإعلانات ما هي إلا انعكاس لثقافة وأسلوب تفكير مجتمعي. فلماذا تم تسطيح الإبداع في زمننا ولماذا طغى القبح واكتسب أسماء براقة، وهل فعلا تسود الكراهية أوساط المثقفين؟

يقول د. جمال في مستهل الكتاب “إن الخطر الأكبر الذي يهدد الثقافة ليس الإنترنت ولا التلفزيون أو السينما ولا أي تطور تكنولوجي، أكبر الأخطار هو “الثقافة” نفسها حين تقدم على نحو سيئ”

ويقول: “إن الإبداع تراجع ليس لتدني الذوق أو ندرة المواهب، بل لتراجع القيم والمثل العليا في كثير من وسائل النشر المهتمة بنشر المحتوى والمؤثرة في الوعي الجمعي لمجتمعنا المعاصر، الذي وجد صعوبة في نهاية المطاف في التفريق مابين الثقافة الحقيقية والمزيفة”.

ويحاول الكاتب إلقاء الضوء على الأسباب التي أدت للتراجع الثقافي المجتمعي والنخبوي فنجده يطرح الأسئلة ويخلخل الطبقة المتكلسة التي تراكمت على مدى سنوات طويلة من صمت متواطيء حينا ومتغفلا أحيانا..

إنه يثير بجرأة التساؤلات التي كف الكثيرون عن طرحها علنا، مكتفين بانتقادات مستترة في جلسات خاصة، يتناول الباب الأول ” نافذة الجمال الأخير” عدة موضوعات منها “مستقبل الثقافة” والذي يحاول استكشاف قدرة الأدب المعاصر على فهم وعكس التغيرات السريعة من حولنا سواء كانت تغيرات اجتماعية أو سياسية أو تكنولوجية وحتى صحية، موضحا أنها قضية غير عادية فالخيال الأدبي في تناوله للمستقبل تأرجح ما بين كتابات الديستوبيا وكتابات الخيال العلمي

وإذا كان الخيال العلمي يعتمد على المعرفة العلمية، فإن أدب الديستوبيا وسيلة لإدانة الاتجاهات السياسية في الوقت الحاضر، ويتساءل عن قدرتنا على تقديم آداب وفنون تستطيع التأثير في الأجيال التالية مثلما تسلمنا تراثا ثريا من الأدب والمعرفة.

“إن في عصر يضربه الوباء والحروب والتدمير الممنهج للطبيعة وتسوده النزاعات الدينية والطائفية والعرقية، لابد من ابتكار أشكال فنية جديدة تتناسب معه، فالجيل القادم سيتميز عنا بامتلاكه طاقة التسارع والاتساق، فضلا عن أنه ربما يكون أكثر سطحية منا “من وجهة نظر البعد الجمالي والعمق الفني ورهافة الأحاسيس”.

لماذا يكره المثقفون بعضهم

وسيركز الجيل الجديد على احتيجاته فلن يجلس ليقرأ أوصافا مطولة أو يتلاعب بتراكيب لغوية، لقد كان الأدب في القرن التاسع عشر تعليميا للغاية واستمر كذلك في القرن العشرين، تعليميا وغير فكري، وربما لم يطلب أحد من الأدباء أكثر من ذلك.

وفي فصل بعنوان “الثقافة المقاومة” يقول إن الثقافة شكل من أشكال المقاومة لأنها تكافح ضد تجريد الفرد من إنسانيته وحقوقه الأساسية، وهي تكرس لفكرة الذاكرة كي لا تنسى الشعوب قضاياها أو يطمسها الطغاة والمحتلون، مثمنا قيمتها كذاكرة شعب في مقابل “التاريخ” كذاكرة سلطة، ثم يتحدث عن “الفردانية الثقافية” وعلاقتها بفكرة الإقصاء، متسائلا عن السبب الذي يجعل المثقفون أنفسهم يساهمون في نشر ثقافة الإقصاء بدلا من المساعدة في تعزيز التواصل بين البشر..وكيف أن وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا كبيرا في زيادة غربة الفرد عبر ممارسة الإقصاء والاستبعاد على خلفية قناعات مسبقة

كما يطرح التساؤل الأهم وهو كيف يمكن للفرد الحصول على حقوقه الثقافية في ظل هذه الظروف الكونية المريضة وما هي المؤشرات التي ينبغي استعمالها لقياس وصول الأفراد لهذه الحقوق، وعن دور المكتبات في عملية الدمج الثقافي بين المثقف والجمهور، مؤكدا أنه لكي ننجح يجب أن يكون النشاط الثقافي معززا للإبداع الحقيقي،ومعبرا عن استقلالية الذات،ومكرسا لمبدأ تكافؤ الفرص بلا تمييز، وليس كما يجري حاليا وسط ترسيخ ثقافة الشللية التي طالت المؤسسات الرسمية والمشاريع الثقافية الخاصة على السواء.

ويفتتح الباب الثاني بسؤال: “هل الثقافة في صعود أم في انحدار؟” وعما بوسع الثقافة فعله في ظل انهيار معظم القيم الإنسانية والحروب الغامضة التي جعلت العالم غير آمن، وكيف يكون للثقافة معنى في عالم بلا معنى؟

ويقول رغم أحقية هذه التساؤلات فإن قناعاتنا تميل أكثر إلى اعتبار تعلقنا بالماضي لا ينفي المستقبل بالرغم من أن المضي قدما يرتبط دائما ببعض الخسائر وفقدان القيم وإلا فإنه لا يمكن أن يكون.

كما أن الجديد في الإبداع هو في حقيقته الجديد في الإنسان وصعوده وانحطاطه هو صعود الإنسان نفسه وانحطاطه”

وكما هو واضح من اسمه “شواهد الخراب الكبير” يُعنى الباب الثاني في الكتاب بتشريح مظاهر الفساد الثقافي، مثل السرقة الأدبية، والمراقبة الصارمة بحجة الأخلاق مرة والأمن مرات، والإفساد المتعمد لذوق الناس فيقول في فصل بعنوان “ثقافة الابتذال.. للكبار فقط”: “ليس هناك ما هو أكثر عدوى من الوهم الذي يدعمه اسم كبير، ثم يتساءل عن مفهوم “المثقف” ليوضح أن الثقافة والذكاء عنصران داخليان لا يأتيان من المعرفة فقط بل من القدرة على فهم الآخر، وما الثقافة إلا موقف متسامح تجاه العالم والناس والطبيعة.

وعلى عكس المثقف الحقيقي، هناك فئة ” المسقفون ” والذي ينتقدهم الكتاب في فصل يحمل العنوان نفسه، فيقول: لا مخلوق في الأرض لديه غطرسة المثقفين، والأدباء منهم على وجه الخصوص، وليس التشكيليون والموسيقيون والباحثون ” ويقدم هذه النصيحة الذهبية فيقول ” من حقك الشعور بأنك مختلف ولكن إياك أن تصدق أنك الأفضل”.

أما النقاد فخصص لهم الكتاب فصلا كاملا يتناول مشاكل النقد وهي أحد أهم أسباب تدني الوعي الثقافي، فيقول: أي تضليل ورياء ودجل وخيانة لشرف المهنة يعادل أن تأخذ الأعمال الأقل من العادية والاستماتة بكل الوسائل النقدية بغية إظهار مدى تميزها، لأن لديك مصلحة ما مع مؤلفها أو بلد مؤلفها أو الجهة التي تسنده أو أية أسباب أخرى.

ثم يحث المبدعين على العمل والاكتشاف “فالإبداع لا يعيش دون إلهام، والإلهام لا يأتيك، بل يحتاج إلى عمل واكتشاف عوالم جديدة لكي تجسد الأفكار الجريئة”

ويختتم الباب الثاني بالفصل الذي يحمل نفس عنوان الكتاب والتساؤل الملح : لماذا يكره المثقفون بعضهم ؟ فيعرض العديد من النماذج على مر العصور: تولستوي وتورجنيف – ماركيز ويوسا-بديع الزمان والخوارزمي

بل لم يسلم الأخوات وحتى الأزواج من هذه الخلافات مثل ما حدث بين سكوت وزيلدا فيزجيرالد وأيضا الأختين شارلوت برونتي وإيميلي برونتي

 مرجعا الأمر للغيرة أحيانا والنزاع الشخصي أحيانا والتقرب من السلطة، والسبب الأهم كما يختتم الفصل يرجع إلى ” اعتقاد المثقف أنه صاحب الحق الوحيد ورأيه صحيح في كل الأحوال “

“ما تبقى لنا” هو عنوان الباب الثالث الذي يحاول الكتاب من خلاله أن يطرح بعض الحلول، ويبدأه بقوة الأدب ودوره في تطوير الفضول الفكري وتوسيع الخيال..ليصل في النهاية للعلاقة بين الإبداع والشغف والجنون وكسر القواعد والزمن والحزن والعبقرية واليقين والكمال والمشاعر والموت والصدق والجمال والمعنى والحرية و غيرها من مفردات الحياة، موضحا إن دور المثقف ينحصر في تحليل الأشياء وتوضيحها في اتجاه لصالح المجتمع، مشيرا لخطورة أن يحل البيزنس الثقافي محل التنمية الثقافية، كما يؤكد على أهمية التواضع الثقافي الذي يساعدنا على فهم الناس من الثقافات الأخرى والتواصل معهم بشكل فعال وإدراك انه لايوجد شخص يحمل ثقافة واحدة فقط وأن العصر الحديث شكّل شخصياتنا من مكونات وهويات وثقافات عديدة.

وحذر من تجاهل الاختلافات بين الناس فيقول “يحاول بعض الناس جاهدين تجنب التحيز لدرجة أنهم يذهبون الى الطرف الآخر محاولين عدم رؤية أي فرق بين الناس، ولكن الناس يختلفون فعلا في نواح عديدة ويجب أن نقبل هذا إن أردنا تجربة فوائد التنوع”.

وكما بدأ عنوان الكتاب بسؤال هام، اختتمه بتساؤل لا يقل أهمية في الفصل الأخير والذي يحمل عنوان “خاتمة الإبداع، إذ يقول:

“-ما الأسوأ في الإبداع

-أن تشرح الواضح، وتضلل الغامض، وتفند العادي، وتشك بالصادق، وتحمي الكاذب

-هل يحصل كل هذا؟

-هذا بالذات ما يحدث في الحياة !

.

الكويت في 29 مايو 2024

 

مقالات من نفس القسم