حقيبتها المدرسية وأيضا من الأولاد الذين كانوا يجرون خلفه ويهتفون : ( ابن الحلوة آهه ) والذين لم يقدر على رفع عينيه فيهم فراح يرسم شوارع ويبني بيوتا ويجعل ناسا يسكنونها ؟ .
هناك أفكار ومشاعر مرتبطة بالخيال الناجم عن الوحدة والقهر تدفعك أحيانا لأن تكون إلها بديلا أو على الأقل وسيطا خفيا بين الإله والدنيا يقوم بإعادة خلق الحياة من جديد بطريقة آمنة داخل عزلته وفقا لما تحتاجه الروح من أجل تعويض هزائمها وإخفاقاتها في العالم الواقعي .. إعادة خلق الحياة أي أن تعيد إنتاج حكايات البشر من خلال إلهامك الشخصي و عبر الإنحيازات والقناعات الإنسانية التي تشكل تجربة العيش التي تخوضها وتدفعك طوال الوقت لتشريحها وتفحص مكوناتها بشكل متواصل .. قد تتخذ مسيرة الوعي الخلاق طرقا مختلفة لا يمكن تحديد الحدود الفاصلة بينها بقدر ما يمكن اكتشاف صلات الاندماج الواردة التي تكسب هذه الطرق طبيعة مشتركة فمثلا قد يحدث نقل محايد للواقع من عالمه العادي إلى عالم العزلة مع إجراء تحريفات محسوبة في شروط هذا الواقع وقوانينه ولكنها تحافظ في نفس الوقت على المنطق التقليدي الذي يحرّك تفاصيل هذا الواقع .. قد يحدث أيضا تحريف غرائبي لا يلتزم بهذا المنطق التقليدي وإنما يستبدله بمعادلات وأحكام مغايرة متحررة من أي قواعد تريد إخضاع الأشياء لسيطرة خبرة جاهزة ينتمي إليها كل ما هو معقول ومستوعب ومفهوم بداهة .. قد يحدث كذلك خلق حياة غرائبية كاملة لا تحتاج لأي تحريف باعتبارها منفصلة تماما عن العالم العادي للواقع ومتخلصة من كافة شروطه وقوانينه .
الغواية في ( شارع بسادة ) كانت هي الهم الخاص للولد البدين الخجول والذي تحول من مجرد هم فردي إلى أرق وجودي يحرضه دائما على الاشتباك مع الحقيقة المراوغة لدور الملائكة والشياطين ومسؤليتها في الإغواء الذي كان بمثابة القدر المسيطر والمتحكم في حياته وحياة الآخرين .. الولد البدين الخجول الذي نسيته أمه عند جدته لسبع سنين هو الذي لم يكن يريد من الدنيا شيئا سوى أن يبقى في حضنها وقتا آخر وأن تقبله من شفتيه الممتلئتين قبل أن تلقي وصاياها وتتركه وهو الذي رسم صورتها في خياله حتى لا يغيرها الزمن : الفستان الأخضر .. الحزام الأحمر .. الخصر النحيل .. الوردة الحمراء على صدرها .. الشعر الأسود .. هو أيضا الذي انتبه لانحسار فستانها قليلا حين جلست على ركبتيها وأبقت وجهها الجميل قريبا من وجهه لتؤكد عليه بألا ينس بأنه ابنها هي وأن الرجل الذي رآه في سريرها أحبها كما أحبها أبوه وأكثر .. الولد البدين الخجول هو الذي أخبرته جدته بأن دودة نجسة في فرج أمه تلتهم الرجال وهذه الدودة هي التي قتلت أبوه بأن مصته حتى جف على عوده .
هناك علاقة حسية ما تريد تثبيت نفسها كمركز دلالي في النوفيللا بين الولد البدين الخجول وأمه .. علاقة متوهجة بالتوترات الموجعة للرغبة وآلام الانفصال والفراق وطاقات الخيال النشطة التي يشحنها التباعد والشوق .. الأم الجميلة التي تخلت عن ابن يحاصره الأذى النفسي الكامن في غيابها وفي تذكير جدته والأولاد له بجمال أمه وشهوانيتها وهو الذي أصبح منسيا ومهملا ومحروما من هذا الجمال الذي ربما يستمتع به آخر .. ما الذي في الحياة يجعل الأم هكذا ؟ .. ربما كان هذا التساؤل هو بداية الصداقة التي نشأت بين الولد البدين الخجول وبين الملاك الذي أوحى له أن يحفر الوجوه على حوائط الطين وأن يحادثها فإذا أعجب بها الله سيمنحها أرواحا ملونة .. صار الطفل نبيا إذا .. محملا بمسؤلية الكشف عن أسرار الغواية وما تخبئه من ممارسات معقدة للملائكة وللشياطين .. الطفل صار نبيا بقرار من مخيلته المحمومة بهواجس مأساته الشخصية والمسؤلية التي حملها هي قرار ذاتي استجابة لجروح متسعة في ذاكراته أما الملاك فهو الصدى الحميم للسؤال الصعب المحفور في أعماق نفسه عن العشق والجمال .
حكايات الناس التي رسمها الولد البدين الخجول هي تنويعات مختلفة على حكايته هو الأمر الذي يجب معه تجاوز أين ينتهي الواقع وأين يبدأ الخيال سواء بالتلاحم بين الأسطورة وهذا الواقع أو بتحريفات مقصودة غير منفلتة من قوانينه المعتادة بحيث تظل هذه التحريفات واقعية أيضا .. هو تناول للعالم ورصد لزوايا وأبعاد معينة منه تتحدد طرقه وأشكاله وفقا لخصوصية استيعاب كل منا للحياة والموت .. ما استوعبه الولد البدين الخجول عن نفسه وكل ما صادفه وجربه خاصة في علاقته بأمه هو نفس ما اكتشفه في حكايات ( علي ) و( مارسا ) و ( نادية ) و( زينب سليمان ) و( ناشد ) و( سمير وهدان ) و( سيدة ) و( حسونة ) و( عنتر ) .. اكتشف حالات أخرى لنفس الغواية .. هذا الاكتشاف هو في حقيقته محاكمة لليقينيات المعروفة والسائدة المرتبطة بـ ( الملاك ) و( الشيطان ) .. إعادة إنتاج حكايات البشر هنا الغرض منه بالأساس هدم الثوابت المقدسة والمعتقدات التقليدية لصفات الملائكة والشياطين ومهمتهم البديهية في الكون عبر الزمن .. الملاك ليس الكائن النوراني المتواري الذي يتدخل لإنقاذ المأزومين ويمنح الفرح والسعادة للتعساء ويقود الضالين إلى طرق الخير والهداية كما أن الشيطان ليس الكائن القبيح البشع ومنبع الشر النشط دوما للوسوسة في نفوس الضعفاء وتضليلهم في متاهات الغواية .. الملاك لم ينقذ أحدا .. لم ينقذ أم الولد البدين الخجول من الغياب عن ابنها ولا الولد الذي يرسم الشوارع والبيوت والناس من الوحدة والفشل العاطفي .. الملاك لم ينقذ ( زينب ) من اللحظة التي تسللت فيها أصابع ( علي ) تحت فستانها ، ولا ( مارسا ) من اللحظة التي وضع فيها ( علي ) كفه على نهدها الذي فوق القلب ولم ينقذ ( علي ) الذي قتله ( ناشد ) داخل دكان قديم قذر .. الملاك لم ينقذ ( نادية ) من شيخ الجامع الأعمى ولا ( سمير وهدان ) من تمزقه بين روحه الأنثوية وجسده الذكوري .. الملائكة سمحت لهذه الحكايات أن تبدأ وتنتهي هكذا دون أن توفر الحماية لأحد .. في المقابل كيف يمكن القبول بمسؤلية الشيطان كإجابة سهلة محفوظة للرد على كافة التساؤلات الممكنة الساعية لتفسير الغواية ؟ .. الغواية ليست مجرد احتمال أو مصادفة من الجائز أن تحدث أو لا تحدث وليست مجرد تواطء أو تحالف وارد بين شيطان ونفس فاسدة .. الغواية طبيعة وجود أصيلة تتحكم في أقدار ومصائر البشر الذين تقودهم الرغبة في الحياة وتسيطر على حواسهم ضرورة المتعة في مواصلة العيش .. الأمر إذن يتجاوز الصراع أو الاشتباك المألوف بين الملاك والشيطان .. الأمر عبارة عن جدل لا ينتهي ولا يهدأ حول المعنى الغامض المختبيء في الغيب .. الحكمة في أن تكون الدنيا والإنسان هكذا .. لماذا يجب أن تحدث الأشياء بهذه الطريقة ؟ .. ما المفترض أن يصل إليه كل هذا ؟ .
( شارع بسادة ) ليس مكان مقفلا بقدر ما هو فضاء قدري ملتبس من الحكايات المتجاورة والمتداخلة لا تتفاعل داخل حدود ملموسة وإنما تسافر عبر الكون والزمن متجاوزة حتميتها الاجتماعية لتحقق انتماءها لمشروع الخلق نفسه وعلى هذا تريد أن يتم استيعابها كجزء من النسيج المعتم الأزلي الذي تتشكل منه النوايا الملغزة لهذا المشروع وترتيباته وخطواته التي يواصلها بإصرار متقن للغاية .
اللغة الغنائية في ( شارع بسادة ) لم تكن لمجرد انتاج جماليات غنية من التشكيل السردي تتجاوز الحكي وإنما لأن المحكي عنه أصلا ممتد بين الواقع والحلم .. الغواية حالة تداخل وامتزاج وحشي بين العادي والأسطوري لا تقاربهما اللغة بوصفهما عالمين منفصلين ينبغي الربط بينهما وإنما كعالم واحد تتشارك داخله الصفات والطبائع ولا يسمح بالاستقرار على هويات مختلفة تتباعد أو تتواصل بصلات محددة .. مخلوقات الغواية بالضرورة ليست مجرد أجساد مشروطة بالقوانين المادية وإنما أوعية بشرية تحوي أرواح بدائية وطقوس وأشباح وأصوات من الماضي البعيد .. اللغة بطيعة الحال في ( شارع بسادة ) كانت تكشف طوال الوقت وبتزامن لحظي عن الخلفية الأسطورية للمحكي المحسوس فيظل كيان واحدا متماسكا بأبعاد متنوعة يمثل حزمة دلالات محتشدة وهائلة لا يمكن التنبوء بالحد الذي ستتوقف عنده عن التوالد .
ربما يريد ( سيد الوكيل ) أن يخبرنا إذن بأن الغواية هي أكثر ما يعيد إلى ذواتنا أرواحها البدائية الممسوسة بالرغبة بكافة أفراحها وهواجسها وآلامها .. تعيد إلى الحاضر ذاكرته المتخمة بصور ومشاهد حلمية عن أزمنة سحيقة كان الخام النقي للعشق والجمال يطبخ خلالها في طقس أسطوري ستظل روائحه وأصداءه نشطة في دماءنا .. ربما يريدنا أيضا ألا نتوقف عن مساءلة ومحاسبة الملاك والشيطان اللذين بداخل كل منا .. إذا نجحنا في الفصل الحاسم بينهما .. إذا نجحنا في العثور عليهما أساسا
عودة إلى الملف