عندما تفتح “قبل أن يعرف البحر اسمه”، ترى فى الصفحة الأولى جملة: “لا شىء أجمل من أن تخترع العالم”، تفتحت نفسى وتهيأت للكتاب، وأملت ألا يخذلنى، ويخذل حاجتى إليه فى لحظة ضعفى، لعل بيننا وشائج قربى، فهكذا كنت دائمًا أرى الإبداع تشكيلاً لفضاء، وكنت أدلف للمسرح خاصة بوعد عالم جديد، الأمكنة واللحظات، زوايا الرؤية والمدى، العمق الذى يتجاوز السطح، فهو يصف البحر فى رحلته للتشكل والنضج: “وبدأت تظهر كلمات وأفكار جديدة لم تكن موجودة فى العالم لولاه، مثل كلمة “عميق”.
فى البدء كان البحر وحيدًا يبحث عن حضن، وأسمته حبيبته الأولى باسمه الذى يُعرف به الآن، وكذلك أسمت “الشروق” والغروب” هديتيه إليها، وعندما فجّرت قصة حب طائشة قلب حمامة قائدة سرب تلطخ الغروب بالدم، وطرفت عين الشمس، فنزلت بسرعة لتغسلها فى النهر، تقلفها تمساح متهوزر، استمتعت الشمس بالاختفاء واللعب فى بطن التمساح، واكتشف الإنسان الظلام حتى يرى الآخر، ويسترد الذاكرة.
ما أصل الشقراوات، ومن صاحبة “بيت القمر”، وللون الأزرق ثلاث قصص تفسر ظهوره، وقصة اختراع أول قيثارة، آلة المشردين المفضلة، من شعرتين لذيل “قيثارة”، وهى واحدة من الخيول التى لم يمس ظهورها غير النور والريح والمطر، أمها سحابة وأبوها حصان.
معكم أبحر فى خيال “محمد الفخرانى” الخصيب، فى صفحة واحدة من الكتاب تحت عنوان “تبتسم لأول ثلاثة وتنرقص مع الرابع”، حيث طفل يصاحب أحد الأحلام الذى يأخذه كل ليلة فى نومه إلى ساحات اللعب المفتوحة، وأماكن تجمعات السعادة، فى هذه الصفحة يستخدم الكاتب كلمة “الحلم الصغير”، فما تدرى أيهما الحلم وأيهما الطفل، وقد يجتمعان فى “طفل السعادة”، الذى يرغب الطفل فى أن يصادفه فى يومه، وليس فقط فى أحلامه.
من هذه الرؤية الجمالية المخضبة بالأحلام والأقلام الملونة ينشئ الكاتب سفر تكوينه، ينبثق رشيقًا هائمًا فى أبنيته المتخيلة، وكائناته التى اخترعها مكونًا أساطيره الخاصة التى تنسج قصص حب وسعادة، ومعنى نبيل يسرى فى الموجودات ويُلبسها لغويًا صورًا مجازية مبتكرة خلابة، من فن الحواديت والحكايا إلى أرق إنتاجات الرسوم المتحركة التى تكاد يطفر منك الدمع من رقة خيالها وصورها، وشخصنة السحابة الفرس وموجة البحر وقطرة النهر ورغيف العيش.
فى “موسيقى متجولة وشارع مغامر”، يذيبك محبة لكلب الشارع كواحد من جموع المتشردين والغجر التى تتصدرها الطفلة “موزة” التى يصف معركتها مع أقرانها من أجل الحصول على الرغيف، وربما ما هو أبعد أو أبسط من الرغيف، كأمنية معلقة، فى البداية والنهاية: “وستفعل أى شىء لتحصل على…”، بزوايا بصرية ونفسية شيقة تتدفق جمله فى متابعة المباراة، ومع كل حدث صغير فى تلك المباراة يتزامن حدث خارج موقع الصراع على الرغيف مثل: “موزة ترتمى على الرغيف، تشعر بدفئه على صدرها، فيغادر الألم قلب شابة تسكن بعد شارعين” أو “تفاجئ الولد الرقاص بقهقهة غريبة عندما يرمى بوجهها حفنة تراب، تغضب، تصرخ، فيعيد الجزء الشرقى من البحر ترتيب أمواجه، أو “تبتسم المرأة لموزة، فتضحك غمازة حلوة فى خدها الأيسر وتنشأ قصة حب فى الشارع المجاور”.
يتسع المكان والزمان بالحركات واللحظات المتوزاية الناشئة من تواتر نبض الحدث الصغير، ودخوله فى معزوفة دوامية، تسرى المحبة الناعمة، والتى تبطن الخشونة الظاهرة أو الضجيجى، لتشيع نغماتها الباطنية فى الأحياء (المجاورة والمجاورين)، وتتجول حرة، غجرية، لماحة، وذكية.
ما زلت معكم فى خضم الخيال أقرأ لراو سارد ذى نزعة كونية، تتدفق جمله أو أخيلته حتى لينسينا النقاط ويتدافع بالفصلات فى الفقرة الواحدة، ويطغى صوته الجامح حتى ليصعب التوقف عند العناوين باعتبارها وحدات منفصلة، إن هى إلا جزئيات من عالم غنائى متصل، يسترسل متدفقًا بلا قيد، فيتبدى شعره نثرًا.
فى الليالى الموحشة، عندما يغبر الهواء، وينضب الخيال وتظن أن جفت الأقلام، استكمل معى قراءة “قبل أن يعرف البحر اسمه” لمحمد الفخرانى.
ـــــــــــــــــــــــ
*كاتبة مصرية