قتلٌ ثانٍ

ART
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إبراهيم المطولي

تمشي الآن يا أحمد في شوارع المدينة، ترى القتل متجولًا بين الناس في ميادينها، تُحاول ألا تعبأ بأحدٍ منهم، فقد عرفتَ من قديم أنك كالآخرين، أن تكون قارئًا لا يعني أن تكون مميزًا عنهم. لستَ الموكل من الله لإصلاح المدائن، ولستَ نبيًّا كي تحزن لكل عينٍ مفقوءة بلا سببٍ منطقي؛ فكن معتدلَ الحزنِ إذًا.

  تتذكر السير في الطريق لقريتك، عندما تكون متعبًا تشعر بأنه طويل طويل… على إحدى جوانبه زرع وأشجار، وعلى الجانب الآخر ترعة يسميها الناس بحرًا، لا تعرف من أين يبدأ ولا أين منتهاه، يجلب أسماكًا غريبة ومحارًا، وفي أوقات أخرى يحمل فوق الماء أمواتًا.

  تتذكر أباك -قبل أن يسافر إلى بلاد في الصحراء ويتركك لجدك- حينما كنت مشغولًا بالنظر في البحر، جاءك صوته غاضبًا بأنك رسبت في اختباراتك؛ لأنك كتبت بين (الله أكبر) حرف واو كبير، ضربك بعد ذلك كثيرًا كلما خلا جيبه من الدخان.

  أما جدك الذي أدخلك المعهد الأزهري ظنًّا منه أنك بهذه الطريقة ستمجّد أولياء الله، عندما تسأله عن مسار البحر يقول وهو لا يعني بشرح: “إذا سألت يا رب أين الطريق؟ جاءك النداء خلِّ نفسك وتعالى”.

  جدك الذي ينطق بالحكمة دائمًا… تعتقد أنه عظيم، وتمنعك عظمته من أن تسأل عن معنى جملته. ينام جالسًا وهو يمرر حبات المسبحة، فتذهب للجلوس على حافة البحر، الأرض ملتهبة بفعل الشمس، تتمنى الشتاء في بالك، ولكن في الشتاء تصير هذه السكك طينًا، يقع الناس والبهائم، تخرج الشمس تحاول تجفيفها، ولكن كثير من العابرين يتلوثون…

  تختار مكانًا بعيدًا عن البيوت والناس، هنا كنت تجلس.. في القلب من الثلاث نخلات التي تخرج من جذر واحد، تميل كل واحدة عن أختها مبتعدة قليلًا، يصعدون إلى أعلى معًا ثم يتعانقون في السماء. هنا لا تأتيك الشمس مطلقًا، من أي ناحية حاولَت الشمس أن تنسلّ إليك تصدّها واحدة منهم، تجلس وتترك قدميك في الفراغ لتستريح، يمرّ البحر من أسفلك، منعكسًا عليه رسم الجريد والسعف، أشجار السيسبان والطيور التي تعبر فوقه.

وعندما تذهب الشمس فيما وراء شواشي النخيل البعيد.. تقوم، تمشي ناحية البيوت، يخرج عاليًا صوت إعلانات التلفاز مرحة وصاخبة، هم في انتظار مسلسل السادسة مساءً. يحق للنسوة الآن أن يشاهدنه ويتفاعلن معه، يدعون للمظلوم من قلوبهن، ويلعنّ الظالم، وينتظرن يومه الأسود الآتي حتمًا.

  أما الرجال فيتجمعون لمشاهدة فيلم السهرة، يدلون بآرائهم في نِسب جمال نسائه، وهم يبللون أوراق البفرة بأطراف ألسنتهم الخشنة، يعيدون بها تشكيل سجائرهم، وفي ليالي الخميس يحتسون العرقي، حتى إذا ما رأوا الشيء الواحد اثنين أو أكثر شعروا بأنفسهم خفافًا، فيضحكون دونما سبب حقيقي، ويعودون لبيوتهم يستندون على الحوائط وأقدامهم لا ترى روث البهائم كي تتجنبه.

  البحر هو البحر… يحوي أسراره، والطريق الساخن ما زال ساخنًا، يدخل من فتحات أرجل المارة، يأخذ من أقدامهم طبقة، ويعطيهم طبقة من طينٍ تحميهم إذا كانوا حفاة.

  اليوم.. ككل يوم، تجلسُ في قلب النخل، قمتَ متطلعًا عندما لمحتَه قادمًا؛ جسدًا منتفخًا حتى ملأ ملابسه تمامًا. الأولاد يقذفونه بالطوب ويصيحون: “غريق”. يقول الناس عن الغريق إنه بعد أن يمكث بالقاع أيامًا، ينتفخ جسده، ثم يخرج ممسكًا بالحشائش والطين، ما إن يسمع صوت النسوة اللائي يقرفصن على حافة الجروف، يغسلن في البحر ملابس أولادهن الصغار، وأواني الأكل والاستحمام، حتى يركن إليهن طالبًا دفنه وستره عن أعين المتطفلين، ولكنهن ويزحنه بالعِصيّ الطويلة مرة أخرى لوسط الماء.

  لم يكن ثمة شيء جديد، ولكن الجديد ما فعلتَه أنت؛ إذ خلعتَ ملابسك ونزلت… أحسستَ بقشعريرة، تلك التي تبدأ من عند القلب وتمتد إلى باقي الجسد؛ ربما هو خوفك، وربما هي صدمة الماء الأولى. سحبتَه، أخرجته، قلَّبته لترى وجهه؛ عيناه مفتوحتان بهما أثر خوف، أثر رجاء، أثر لأشياء أخرى لا تفهمها ككلمات جدك. صحتَ: “غريب.. ليس من هنا”. بعدها حاولتَ دفنه، ساعدك الأولاد بالمسحاة القديمة، حفروا له حفرة،  وضعوه داخلها، رغم أنها لم تكن مريحة، وأنها بالكاد تخبئ الجسد المتورم، إلا أنه أكثر حظًا من أناس كثيرين مروا بالبحر، بينما أنت تجري ذات الشمال وذات اليمين وتكرر: على المهل يا جماعة، بالراحة يا جدعان! يرد الأولاد: دا ميت يا عم أمح، هو بيحس؟

  وأكثر حظًّا من آخرين كثيرين سيمرون، ولن تكون أنت هنا لتدفنهم، أهلتم عليه التراب، وأنت تقرأ ما تيسّر لك من القرآن، حاولتَ أن تتذكر ما قرأته في كتب معهدك الأزهري عن قدسية الموت وحرمة الأجساد، والغريق الغريب خاصة. لفظ الكون من كل جهاته أناسًا كثيرين، حتى الكلاب جاءت تتشمم وهي تثني ذيلها بين أقدامها، يسبقهم جميعًا الخفير؛ قصير الجسد والرقبة والأصابع، ليس به شيء طويلًا سوى بندقيته العتيقة، تعرف كما يعرف الجميع لكنهم لا يستطيعون البوح أنه في الشتاء يسرق الأخشاب التي يتدفأ عليها ليلًا من الحقول القريبة والأسطح المنخفضة، صرخ وهو ما يزال يهرول ناحيتك:

–  مصيبة… جبت مصيبة يا عم أحمد. 

أعاد رفع التراب مرة أخرى: اتركوه لحال سبيله.                                          

وقفتَ عند رأس الميت ورفضتَ. حدّث هو الرجال عن الشرطة والعساكر والضابط الذي سيسأل عن الفاعل، والفاعل لا بد من هنا، من بينهم… خافوا، جذبوكَ بعيدًا عن الميت، ألقيتَ بجسدك فوقه، سحبه الخفير من حفرته، صار له وجه بشع بعدما اختلط التراب بالماء وامتلأت عيناه بالسواد. وقف الخفير وأشار بيديه إلى الجانب الآخر: “خدوه للجانب التاني من البحر.. هنا مركز وهنا مركز!”

  في الجانب الآخر خفر آخرون سيُسألون، ورجال آخرون سيُهانون. أصررت أنتَ وراقت للأولاد اللعبة، حملوه ومشوا ناحية الكوبري لنقله، لكن أهل الجانب الآخر أتوا مسرعين، يلوحون لأهل الجانب الأول بالرفض، علت أصواتهم وتداخلت، صارت أزيزًا يمر برأسك. صدمَتك مما يحدث أخذتكَ من عالمهم، فلم تفقه شيئًا مما يقولون… ماذا في دفن ميت طلب ستره؟ حلًا للمشكلة اتفق الجميع على أن يُلقوا به مرة أخرى، “غريب”،  صرختَ، ضربتَ الأرض بقدميك، ولكن من يأبه لك؟

أرسلوا من يأتي بجدك، وجاء جدك، حاولتَ أن تشرح له فلم يسمع، أمسكك بيدٍ من معدن، كلّمتَه فلم يُجِبْك، جرَّكَ من فتحة جلبابك حتى ترك خطًا أحمر حول رقبتك. لم يعد عظيمًا ولا ينطق بالحكمة، كذّبت كتبك المدرسية، والبكاء واجب في الختام كما في لحظة البدء.

  تهادى الجسد، دفعه الناس بالعصيّ الغليظة وقذفه الأولاد بالطوب، اقتربتْ الأسماك الصغيرة تستكشف القادم إن كان يصلح كغذاء فتأخذ قضمة ثم تعود للقاع… غريب وسيظل.

وعرفت من حينها يا أحمد: أنك كأنا.. كجدك.. كالآخرين، وأنك لست نبيًّا كي تحزن لكل غريبٍ مقتولٍ بلا سببٍ منطقي.

مقالات من نفس القسم

art
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الرمية

تراب الحكايات
موقع الكتابة

طلة أمي