أبو الفتوح
زهرةٌ بَتَلاتها نحاسية لامعة، ساقها برونزية دقيقة النحت، تُسقى بحديد مصهور، و تخطف الأبصار تحت إضاءة صفراء مُركَّزة، أتى بها المُعلِّم إلى حجرة الطفل .. اتسعت عينا الطفل انبهاراً حين أجلسه المعلم ذو الياقة المُنشَّاة أمامها، و أخذ يشير لها بعصاة تَصدر منها موسيقى منوِّمة، و يقول بصوت مجوَّف: “زهرة .. زهرة .. زهرة جميلة .. زهرة جميلة”، و الطفل يردد خلفه بصوته المُستكشِف: “زهرة .. زهرة .. زهرة جميلة .. زهرة جميلة” .. و بعد انصراف المعلِّم اقترب الطفل من الزهرة و نيَّته أن يتحسَّسها فانجرحت يده، و سقطت قطرة من دمه فى الحديد المصهور لتُصدر صوتاً جعله يجزُّ على أسنانه .. لما عاد المعلم أخبره، قال المعلم: “ألا تعلم أن الزهور تجرح؟ .. فلتعلم إذن أن الزهور تجرح .. قل خلفى .. الزهرة تجرح” .. قال الطفل: “الزهرة تجرح .. الزهرة تجرح”.
يوماً ما رن جرس الباب .. كان الأب – ذو الوجه المتجمِّد و اليد التى تحولت إلى عصاة منذ وقت طويل – نائماً .. و رغم أنه ممنوع من فتح أى باب أو نافذة إلا أن صوت الجرس الذى كان يشبه صوت سقوط قطرة الدم فى الحديد المصهور إلى حد كبير كان يعذِّبه .. أسنانه كادت أن تتكسَّر من الضغط .. تقدم إلى الباب و هو يرتعش بشدة و فتحه .. أنعم عينيه ضوء رفيق دافىء لا يبدو أنه يصدر من مصباح كهربائى كما تعوَّد .. وقف مكانه يستحم به فى نشوة بالغة … ثم انتبه إلى خطورة الموقف فتلفت باحثاً .. لم يجد سوى طرد على الأرض .. أخذه و دخل بعد أن أغلق الباب برفق.
كان موعد المعلِّم قد اقترب، و بين حين و آخر سوف ينفتح الباب عليه، إذ لم يكن من عادة أبيه أو المعلم النقر قبل الدخول حتى إلى الحمام؛ لذلك أخفى الطرد سريعا تحت الفراش، و جلس يتأمل الزهرة .. زهرة جميلة .. زهرة تجرح.
انصرف المعلِّم سريعا هذه المرة .. عندما استوقفه الأب ليستفسر عن السبب أخبره أنه ذاهب للمشاركة فى تجربة ثورية جدا تحت إشراف إدارة البلدة، حيث سيقوم بمحاولة تعليم رضيع كيفية البكاء بصوت معدنى.
انتظر الطفل الليل .. تأكد من نوم أبيه عندما تسلل إلى الكوريدور ليسمع شخيره المقتضب الذى يشبه إلى حد كبير شخير خنزير مصاب بالزكام يكاد يخترق باب حجرته مخلفاً ثقباً كبيراً منتظم الشكل.
كاد يتعثر فى سجادة غرفته، فاعتدل سريعاً، و أغلق الباب خلفه ببطء قارب أن يقتله، لكن خوفه من إصدار أى صوت أجبره عليه، و ما إن سمع تكَّة الباب الخافتة حتى قفز تحت الفراش و أخرج الطرد .. وضعه أمامه ..
مكتوب فوق الطرد بخطٍ راقصٍ: “من صديقك الذى استطاع الخلاص .. و قام من فوق الكرسى جارياً .. ليرى بعينيه الخاصَّتين” ..
لم يفهم شيئاً تقريباً، و لكنه شعر بشىء جديد يدخل رئتيه مع الشهيق الذى تلى هذه الجملة مباشرة ..
و جد طرف خيط فى مركز الطرد من الأعلى بالضبط .. خيط كخيط علب الجبن المثلثات، فابتسم، إن صديقه يحبه لدرجة أن جعل الأمر سهلاً ..
مد يده و جذب الخيط بسبابته و إبهامه لأعلى فانشق الطرد من المركز أربعة شقوق للأربعة زوايا، و انفتح للخارج ..
شهق الطفل ..
كان يرقد فى الداخل شىء يشبه الزهرة، لكن بتلاته ورقيَّة حمراء، و ساقه طريَّة خضراء، فى إناءٍ مترع بالطين الرطب ..
اقترب الطفل منه، تحسسه و حدقتا عينيه على اتساعهما، ثم اقترب بأنفه من الطين و شمَّه؛ غابت عيناه تحت جفنيه من النشوة، ثم عادتا غير ما غابتا، عادتا و بهما يقين ما.
عندما أتى المعلم كان ينتظره، بل كان يتمنى لقاءه على غير العادة، جلس المعلم فى مكانه، و أشار إلى الشىء المعدنى اللامع و قال: “زهرة .. زهرة .. زهرة جميلة” .. ثم توقف عندما لاحظ أن الطفل لا يردد خلفه .. نظر إليه لتصدمه نظرة ساخرة كاشفة، و نصف ضحكة كادت أن تخلع قلبه.
شاهد الجيران المعلم يجرى خارجًا من المنزل ..
فى اليوم التالى شاهدوا الأب يجرى خارجاً من المنزل ..
فى اليوم الثالث شاهدوا كومة كبيرة أمام المنزل، لاحظوا فيها التلفاز و وجبة ماكدونلدز، و علب أدوية، و مخدرات، و لافتة فوقها مكتوب عليها: “ضع ما يَمْلُكك هنا ” ..
كان أهل البلدة قد هالهم ما حدث للأب و من قبله المعلم، خصوصاً أنه ذات المعلم الذى علَّم كل أبناء البلدة و آبائهم و أجدادهم، فقرروا اتباع ما هو مكتوب على اللافتة.
بعد أسبوع أصبحت الكومة بحجم هرم، فخرج الطفل عاريًا مبتسمًا، و أوقد فيها النار.