عبد الرحمن إبراهيم
تفرض النصوص التجريبية مناخها على المتلقي، انطلاقا من استعارتها البنية الفنية لتجميل الواقع، فكل القوالب التجريبية الحديثة في الفن لا يلجأ كاتب النص إليها رغبة في تجربة تنفي مرجعيتها أسئلة الفرد، لكن لأن القوالب السابقة لا تناسب أسئلة الحاضر وخصوصية كاتبها.
دائمًا ما تأتي الإضافات للنصوص الحديثة من حيث الفكرة فقط، لكنها تستند على متن يعي حضوره في الوعي الجمعي لدى المتلقي، حتى إن أختلق سياق آخر لكن للمفارقة سيفتح معنى آخر أيضًا. ولنفرض أنه إذا كان على الروائي بناء المعنى أي ولادة مجردات لم تسعفها السياقات لأن توجد، فنحن أمام فعل الخلق ذاته؛ لن نعيد تفكيك المتون مرة أخرى فقط أو نتكئ على إعادة صياغة معرفة مسبقة بلغة تتماشى مع الحاضر، بل سنكون في رحلة للتنقيب والكشف عن مجهول.
لذلك تعيد سردية “قارئة القطار” للروائي إبراهيم فرغلي، تهجين ذاكرة بطلها، فهناك حدث ما يلبث حتى تكشف دلالته عن اندثار معنى سطحه، وقارئ للمفارقة يفتقد للمعرفة، وقطار يمنح رواده هويته المفقودة، أي أننا أمام معمار شيد بغية سياق ما يحاول المتلقي إدراكه في هامش المتخيل، وفيما يضع الكاتب عتبه نصه لاستدراكه لحدث فوق واقعي يعمل على تبريره؛ تؤسس الحكاية مرجعيتها من واقع يدلف البطل عبره إلى فصل آخر من حياته، هناك قطار يضع شروطه بمقام مدينة تهب أفرادها هويتهم، وقد ابتلع المجاز واقع قارئه، ويمارس أفراده قراءته كنص يفرض تأويلاته.
ذاكرة متخيلة لشخص ميت:
يقول أمبرتو إيكو في أحد حواراته؛ متحدثاً عن الذاكرة:
“باعتبارنا كائنات بشرية، عندما نقول “أنا” فإننا نعني ذاكرتنا، الذاكرة هي الروح، إذا فقد شخص ما ذاكرته فإنه يصبح كالنبتة ولا يعود يمتلك روحاً بعد الآن؛ حتى بالنسبة للمؤمنين، الجحيم ليس له معنى بدون ذاكرة. العقاب يكمن في استمرار تذكر الخطيئة”
يبدو حلم شخص ما شديد الغرابة، لكن المفارقة أنها أحداث حقيقة حدثت سلفاً فيما مضى، وما الحلم إلا نص أعاد صياغتها في قالب يستمد أحداثه من الواقع لينتج نصًا آخر، وفي الحقيقة أننا نواجه فيه ذاكرتنا بدون هوية وبدون وجود.
على عتبة القطار يودع البطل آخر شيء يثبت حضوره في الواقع، تسقط محفظته شرط دخوله، وفيما يحاول استبيان نمط ما يحدث له يبدأ في مساءلة محيطه الذي أخذ واقعه يعرب عن غرابته، يستخرج كتابًا من حقيبته وقد توقف عند فاصل لاستكماله، ونسي جزءا ما فاته، وكلما حاول الاستمرار في القراءة عازماً على إدراك سياقه، يبدأ في التيه.
مراوحة بين اشكاليتين:
يقابل قارئ القطار قارئة أخرى تسكن قاطرته؛ تقرأ لعدم توقفه، ومن هذا المنطلق تنشأ مراوحة بين قارئين، الأولى تقرأ لعدم توقف القطار، والثاني يقرأ لتوقفه، هي قارئة وهو قارئ، هي عارية تمامًا، وهو يرتدي ملابسه كاملة، هي تملك ذاكرة، وهو لا يملكها، هي تلازم عكازها، وهو بصحة جيدة، هي عمياء إلا أن الصفحات تضيء لها الكلمات، أما هو مبصر لكنه يتوه في المعاني. فيصطدم القارئ لعمليتي تلقي وضعت ضمناً في النص لتمثيل جنسين من القراء، فالقارئ شريك في عملية إنتاجه.
إذا نحن أمام نص يرفض قوانين الواقع لكن لا ينكرها. فلأي مدى تستمد جذوره أصالتها في متنه؟ وكيف يساهم الهامش في تقويضه؟
يفاجأ البطل بتغير اسم كتابه من كتاب الأحلام إلى كتاب الأوهام، فيما يشيد النص معمار قطاره من كتاب سيدرك فيما بعد أنه كاتبه، فحين يرى ذاكرته تحتفظ بها قارئته، فليس من المستبعد أن يتحول نص مثل مقهى المصابيح المعتمة إلى مكان حقيقي تحفظه قاطرة فيها، وأيضًا يمكن لنص مثل كتاب الأحلام أن يمتلك متاهة لذاكرة قاطنيه كلهم حتى غدا إيهام الحكاية ذاكرة متلقيه، مثل ما يشعر به البطل من تبدل خواطره وأيضًا بالتماهي مع شخصية تمثل تاريخًا في الواقع لمروية أساسها الخيال، هو “محمود الوهم” ليسلك الاسم مسار تأويل يحمل رمزه، ويصبح تاريخ النث منطلقاً للبنية الفنية.
تناص البنية:
إذا لجأنا إلى تحليل نص مثل “الليالي العربية”، سنرى في الحكاية أنها تخلق سياقات؛ لذا فهناك طوق نجاة تحاول شهرزاد اختلاقه لتنجو، فهي تحيك المعاني بدون تقشف وفيما تمتد الحكاية وتكون أكثر مرونة تستمر فرص نجاتها أكثر، فالحكاية تولد من فرضية أساسها سيرة متخيلة تملك أداة إيهام متلقيها، ويصبح فضاء الرواية ملتبسا بفرضياته، التاريخ والواقع يتناصان فيه، ولكل مسار تسلكه حبكتان، فالمروية التاريخية تنهض محكيتها في القرن التاسع عشر، وفيما تقام سيرة البطل في حاضر القرن الواحد والعشرين، فالأولى تنطلق من ميتة مؤقتة، تضعه جدته في مقبرته حياً ليشفى من مرضه، ليعود البطل بعدها للحياة عازماً الانعتاق عن ماضيه وماضي عائلته، إذا ليس الخيال هنا فصل آخر من حياة البطل في مرويته، لكن الكلمة هنا تواجه جثة هامدة أرجأه موتها بعد اكتمال النص.
يقابل قارئ القطار توأم زرقاء القطار، “ذكرى” في حين يعطي اسمها بعدًا شديد الرمزية، فيكون حكاية تقطع نصه من مروية الواقع، فهم حسب روايتها عاشقان في زمن مضى، فالمروية التاريخية تتغير حبكتها من شخص هارب من ماضيه، لقصة حب تجمع بينه وبين فاطمة التي للمفارقة أيضًا هاربة من عائلتها، إلا أن المصير في النهاية يفرق بينهما، وتصبح فاطمة ذكرى القطار وتختزل حكايتهما في ليلة متعة هي الدليل على وجودها واختفائها، ويصطدم بهشاشة محيطه في النهاية وهو يكشف عن عجزه لمواجهه مصير مجهول ناتج عن توقف القطار، لكن ذاكرة المكان بقيت تظهر له مخاوفها لمواجهة مصير آخر للنسيان، وكأن نصه يحتاج إعادة قراءته بعد أن أمتلك أداة تلقيه، بحثاً عن هوية مفقودة.