فَـضُ الـغـلاف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد غانم عبد الجليل*

جمد أمام اللوحة ربع أو نصف ساعة، وربما أكثر، لا يهمه رأي أي ناقد في إدراجها ضمن مدرسة فنية محددة، يكفيه ما لفحه من ألقٍ يخط تعبيرات وجه المرأة الشارد نحو ضباب فضاء اللوحة، يعيده إلى سنواتٍ ولّت متواثبة، مثل الريح الخريفية التي استقبلته لدى خروجه من الروّاق الذي اعتادا زيارته معاً، يتأبط لقيته بعد طول مساومة على الثمن الرخيص، رشقات نسائم البرد الناعمة تهب جسده حيوية الشباب. 

تتطاير خصل الشعر الكستنائي الطويل معها يميناً ويساراً، متراجعة للخلف أمام كل خطوة وئيدة تمضي جهة مغيب الشمس، ثم تعود إلى ذات تجعدها في اللوحة، يتدفق بكثافة شلال تتهاطل عذوبته في عينيه شبه المغيبتين عن الطريق، امتداده يتفرع بين الميادين والأفرع المضوَّعة بعبق وجوها الخفي.

تمايل خصرها على مد ذراعه كان يغريه بجذبها إلى عناقٍ لا يأبه بحملقة عيون المارة المقتحمة خصوصيتهما، ينعزلان في شقته الصغيرة عن كل تبجحٍ ورقيب، في البدء كان مكتب محاماة محدود القضايا. مزق الملفات والأوراق القديمة ونثرها فوق رأسها مثلما تنثر الورود البيضاء على عروسٍ في ليلة الزفاف، شهدتها الأرض الصلدة والمروية ببرد أيلولٍ بعيد، بعيد جداً، دُرِج ضمن تاريخ عقد زواج موَثق بأختامٍ حكومية، مثله مثل بطاقة الهوية الشخصية لديهما، يشهرانه عند اللزوم، على غير توقع منهما أقبل مسرعاً كمباغتة شهاب، أجبرهما على تمثيل مسرحية العرس بإشرافٍ عام من أهلها، وأمام استغراب أهله من آخر تقليعات جنونه المفاجئة.

صارا زوجين في العلن، غريبين عن بعضهما، حتى تم الطلاق، مستسخفاً تلك الكلمة، الأشبه بالموت لدى الكثيرين، عندما نطقها لسانه. في ذلك اليوم أترعا جسديهما عشقاً من بعد نضوب في نشوة انتصار ورفرفة وداع لم تعقبها كلمة أو نظرة تؤجل اختفاءها من الشقة، وحياته. لم تخلِّف سوى لوحة كانت متاعها الوحيد في شقته أول تعارفهما، رسمها لها عاشق سابق، غلفت حكايتهما المنتهية بالصمت العصي على نوبات الفضول، اقتنص وجهها في جلسة شرود غامض نحو الأفق الغائم، ترتدي ثوباً يشف عن تكور نهدين نافرين من غبار ذلك الروّاق العتيق. لا يعرف كيف وصلت إلى هناك! نسيها تماماً لمّا قرر ترك الشقة بكل ما فيها، بعد عدة مغامرات فاشلة أغرمته بها أكثر فأكثر، إلا أنه لم يجرؤ على دفع نقطة النهاية قيد حرف عن قصته والزوجة المدللة للعجوز الثري، الدائم السفر.

 وصل بيته الصغير والبسيط البناء متأخراً عن وقت رجوعه، كانت زوجته وابنته المحجبتين تقفان في قلق على عتبة الباب بانتظاره، صرخ فيهما، تجاوزهما بتذمره من السجن الراضخ في أغلاله منذ عمر، دخل غرفته الخاصة، وأوصد بابها عليه، غير مبالٍ بتمتمتهما.

 وضع اللوحة على الطاولة وفض عنها الغلاف الورقي، اختلج صدره، ألقاه الشدوه على كرسيه، انحنى فوق اللوحة المسلط عليها ضوء المصباح المنضدي، وراح يحدِّق في الوجه المتغضن، انسحاق النهدين المتهدلين تحت الثوب الشفيف، الشعر الرمادي المسترسل إلى جانبي كتفيها، وجذوتي عينيها الموشكتين على الانطفاء.   

 

                                                                     7 ـ 10 ـ 2017   

……………

*قاص وروائي عراقي

مقالات من نفس القسم