حسين عبد الرحيم
خرجنا من أول العرب بعد الفجر بدقائق، عبد العزيز محمود يتكئ على كتفي في وهن بين، تعمد النظر لمقهى الشكربالي، توقف فجأة وبانت ساقه تهتز وجهازه الاصطناعي يصدر أصواتا غريبة، ما بين التزييق والصلصلة في رتابة تعود عليها، لم أتعمد ألا يبدى اكتراثا بظهور ألمه، لم يحرك ساكناً، كنت أنظر لساقيه في رعب فلم أتبين أيهما المبتورة أو الأخرى السليمة، توقف مشدوهاً يصيح وعينه تتلصص، تنظر إلى صحن مقهى الشكربالي وقت ضباب الفجر الذي خيم على أول العرب بشوارع المدينة واصلا حتى نهاية شارع أحمد ماهر المؤدي للميناء، وسمعت من يصيح بالداخل:
ـ يا نجف بنور يا سيد العرسان.
انتبهت للمنادي وأنا أشعر بتيارات هواء كاسحة تخترق عظامي، تسرى ما بين فراغات قميصي الشارلي وسويتر وتربروف زهري إلا أن نسمات ما بعد الفجرية أشعرتني ببهجة كالعادة، تحسست صدري، نظرت للسماء، وقتها توقف الزمن بنا، استوقفت عبد الغزيز محمود قائلا:
ـ تعلب بن مصطفى محمود؟! أتعرفه يا نجم النجوم الباهرة؟
ضحك المطرب:
ـ تعلب الوحش، ابن الحاجة فاطمة الضاحي شقيقة عربي؟
كررها المطرب، توقف يشعل سيجارته الكينت، ثوان وهرع إلينا كل من التعلب وحسن سليم وسعد العجرودي وطارق العجيزي فرحين مهللين يلتفون حول عبد العزيز محمود يحتضنونه، ترك الجميع يتعلقون بصدره وأكتافه، ربتوا عليه يضحكون في بهجة وهو يقول:
ـ تعلب الوحش، أخيرا أراك تاني في العرب يا جميل يا كاسر، وماهي أخبار الحاجة فاطمة الضاحي.
رد التعلب:
ـ لا تفارق التراسينة ليل نهار
وعزم تعلب وحسن سليم على الأخذ به لداخل المقهى فتجمع الشباب وأنفار رحل كانوا ساهرين بأول العرب.
كان الجمع أشبه بزفة عروس، تجمهروا يريدون رفعه من فوق الارض، حياهم المطرب فتكاثروا ومنهم من قال:
ـ لله، غنى لنا يافنان.
ردد مقولاته، وتريي للم لملم، شنجر بنجر ناااو نو والفرح، والزفة.
ـ والحقني يا تعلب،
وأمسكت بشومة ناولني إياهها طارق العجيزي وطحت في الجميع، هربوا أمامي وأنا أمسك بالعصا الغليظة وبيدى سيجارة كنت والعجردي يضحك من داخل المقهي ساخرا مرددا
ـ يلا، صومالى فتوة يابشر. اضرب يا صومالي، هيج ياض
ضحكت، كان المتجمهرون من الشبيحة قد اختفوا خلف بيت بشارة وقبل مقهى عصعوص وثكنة زكريا، كنت أركض وعيني على الصرصار والشوش وكاتينة ابن أم اللول، أصر التعلب على مضايفة المطرب، رصت الجوز النحاس، وأخرى من ثمار الجوز، وقال حسن سليم:
ـ يا عربان، تعال.
بدا عربان يجلي الأحجار بسيخ طويل مبروم، رص المعسل وقال سعد:
ـ فليعاونه حسين الصومالي.
رفض التعلب وسحبني من يدى وأجلسني بجانبه وقت أن دقق عبد العزيز في هيئة التعلب، تأمل ملامحه وقد راق له تصرفه وموقفه الرافض لمشاركتي في التخديم على الشريبة، أخرج لفائف السوليفان البنية، حشيش المغربى ولبناني وبلدي طافح بالزيت، مائة وعشرين حجرا من معسل القص تراصت على طاولات خشبية قام العربان بوضعها بالركن الاخضر داخل مقهى الشكربالي، سأل تعلب المطرب عن الحال والعمل وسبب الزيارة المفاجئة، وذكره تعلب بابن مصطفى محمود:
ـ عامان مرا ولم أرك، منذ متى كان آخر لقاء؟
قال ضاحكا:
ـ مشاغل ياتعلب. الأهم فرحتي بيك وسعادتي بيكم وبهجتى بالتلاقي، كيف الشباب، والكيف، والحشيش يا برمجية.
ضحكوا جميعا، عجيزي يتأمله هو يداعب ابن سليم، ناوله اللاي:
ـ واد يا صياد، والله زمان يا حسن ياسليم كيف أبيك الرجل المتزن.
ضحكت وشعرت بدفء لم أشعر به منذ مجيئي في زمن ما لا أعرفه ولا أعلمه، لم أتبينه.
الساعة الآن السادسة والنصف، الجميع في حالة نشوة وسحر، سطل بين أطاح برؤوس الجميع فصعدنا، وصعد بنا الدخان الأزرق لقبة السماء، في ناصية محمد على وأحمد ماهر،
تعلب يسأل المطرب عن جديده، يطعمه اللاى من جديد، يبرز فصين أفيون في سوليفان أبيض:
ـ لكنه فعلا، السادات ناويها؟
_آه يا تعلب، كله خير للبلد،
يرد عبد العزيز وينصت كل من سعد العجرودي وحسن سليم. راقبت جمر النار المشتعل في وهج واحمرار فوق الاحجار الفخارية المصبوغة بالسواد، أشم رائحة الحشيش للمرة الأولى. طارت بي الدنيا، تعلب ينظر إليّ من حين لآخر وأنا القابض على المبسم لدقائق في فمي، قال:
ـ ولع يا صومالي،
أخجل فيقول ابن سليم:
ـ ياض دوس قبل ما تنداس.
أضحك في خجل، أتناول اللاى من عربان، يصر تعلب الوحش على تقديمه لي، بيده شخصيا:
ـ من تعلب شخصيا للسحس، قاطن دير الضاحي…..
يقولها المطرب فيضحك الجميع، أسحب نفس طويل فلا يكاد اللاى يفارق فمي، نصف دقيقة، زادت الأنفاس، صهلل الجميع وقال عبد العزيز:
ـ يا نجف، دا مش بنور دا ألماظ، الواد الصومالي تعلوب هو الآخر.
ضحك التعلب، بدأ جسدي في التنميل، خدر سرى في أطرافى وذراعي وجسدي كله، وجهى زاد احمرارا، عيني انتفخت، أطل لهيئتي وملامحي، في صفحة مرآة قريبة من المبولة، أردت الوقوف فتطوحت، زاد ضحكي فى هيستيرية.
قال العجيزي:
ـ الصومالي سطل يا معلم تعلب، هات ياعربان الدلو وكيس بلاستيك.
الضحك داير، سماء تتجلى بهالات شيطانية من أدخنة زرقاء، استطال عضوي داخل بنطلوني، كاد إيري أن ينفذ بقرصة الطقطوقة الزان وأنا المضطجع على الكرسي الخيزران أتطوح مابين نشوة ولذة وارتخاء في عضلاتي، وهن فى مفاصلي إلا شيئي، عضوي زاد طولا وصلابة، يستطيل فيزيد حرجى، أريد الوقوف لأغسل وجهي، الحمام يبتعد، تعلب يقول لعربان:
ـ هات قهوة اسكتو للصومالي.
ويقول العجرودي.
ـ مكانش لازم يشرب، دا رجع اللي كله منذ ميلاده ياتعلب
ضحك تعلب دون التفات، واصل الحديث مع عبد العزيز محمود الذي قال:
ـ الريس كان هنا أمس الأول وسيعود مرة ثانية.
ضحك حسن سليم
ـ هنا في القهوة يا نجم؟ أمال إحنا كنا فين يا نجف.
ضحك الجميع وتراءات لي السماء تفر من فوق رؤوسنا، وقتها كرر العجيزي:
ـ وأنا سمعت نفس الكلام بالأمس على مقهى الضاحي وإن المعلم عربي ضاحي وفور رؤيته للموكب جرى مع سيد قمصان والشربيني الحلواني، ضربوا نار في مفارق محمد على والتلاتيني.
نظرت أستطلع الأفواه متنقلا بنظراتي أجول، أحدق بحدة وجدة لتبين الجد من الهزل وأنا أطأطئ رأسي متأملا أحجار المعسل الفارغة، أنظر في ساعتي التي تجاوزت السادسة والنصف.
ودع عبد العزيز محمود الجميع، وعد بتكرار الزيارة الأسبوع المقبل، وختم حديثه بالتأكيد على مرأى ومسمع الحضور:
ـ أنتم تعرفون، أنا زبون دائم عند العم شاهين، أعشق الحلو والحادق، وبصراحة كدا إحنا لا بنحب المؤدب ولا قليل الأدب. ضحك الجميع وزاد التطوح بعد الفجر:
ـ ليلتكم ملبن تركي.
زادت القهقهات، قاموا يرافقونه، تساند المطرب على تعلب، تعالى صرير جهازه الاصطناعي، شردت، خطى ببطء حتى وصل الجمع للناصية الأخرى من محمد على، جانب كشك الللي، كانت عربته البويك السوداء تقف في مواجهة منزل المرحوم الشهيد عبد الله عبد التواب، تأملت مباني الفيلل بمساكن هيئة قناة السويس، بامتداد أحمد ماهر، تنفتح النافذة فجأة، تطل فتاة جميلة بوجه أبيض وخصلة مطلوقة بحرية فوق الحاجب، كانت الساكنة بمنزل الشهيد عبد التواب قد استدارت، تسمرت قدماها، لاح ظهرها المرمر بعجيزتها المتكورة داخل الشقة القابعة بالدور الارضي، دارت من الأرضي للأعلى، نظرت للتصميم البلجيكي للفيلا، في طقس بيتوتي دافئ وساحر عادت بروب برتقالي.
وقفت وحدي فى الطل، بينما تعلب والعجرودي وحسن سليم وإبن العجيزي يقبلون المطرب، يودعونه.
بنت الشهيد تروح وتجيء، تطل من نافذة الدور العلوي، تنظر إليّ وحدي بتلصص وأنا في سطل وهبوط بين، شعرت بأن العالم كله يرقبني، عضوي يستطيل، يتمدد في خجل فأطأطئ رأسي وأنظر لساقي، أقفل سوسته السويتر، أشد كنار البنطلون حتى أعلى مؤخرتي، أسحبه من الأمام للأسفل دون دراية وأتعجب من هذا الشيء الذي انفرط فجأة، تدلي كأنه البزوغ الأول لذكورة دفينة، محجوبة، لم أتبينها قط عبر سنواتي المنقضية والذي لا أملك أي إحصاء لها.
عادوا لمقهى الشكربالي وذهبت لشراء علبة سجائر، طلبت الكينت من كشك البوبو فسألني في مزحة:
ـ منذ متى وأنت تدخن،
صمت، استدرت أشعل واحدة تحت نافذة فيلا عبد التواب التى زاغت فيه فتاتي البرتقالية، عادت مرة ثانية تجرني من حواسي، ولكنها من أعلى هذه المرة، بنفس الروب، تنحنى يسار التراسينة، خطت قريبة من قفص عصافير، تأملت المشهد واقتربت، خطوت من خلف عربة التفاح المركونة بجانب فيلا كابتن علاء.
تلصصت زاحفا، أترك البازلت، أقف على حد الطوب، أزحف على بطني بلا وعي، دون دراية، راقبت النافذة العلوية، كانت تنكش القش بأنامل من نور، أصابع بيضاء شفيفة تسطع في غبشة الصباح وغمام الشبورة، من وسط الهالات البيضاء والرمادية التي تخايلني، تتراقص أمام عيني، رأيت عصفورا وحيدا معلقا في أرجوحة بمسند أخضر، كانت قد هامت وقامت شارقة بملامح ملاك، نظرت إلى عصفورها، وحيد، وحيدة.
تراءت لي، تلقفت العصفور في حنو، من فمها الوردي، لمنقاره الضئيل المدبب، بثغرها، قربت المسقي بالماء النظيف، أطعمته بعض الحبات، قامت بتنظيف القفص، صاح العصفور وحده، في غبشة الضباب، حاولت النهوض متسللا، صرت أزحف على بطني، كدت أن أرمي بجسدى لأعلى، ظهرت أساورها في معصم حليبي بض. بان قوامها من خلف شجرة السيسبان الوارفة الظلال،
رأيتها، رأيتها كلها، لم ترني، لاحت بيضاء فى لون الشموع، متوسطة الطول تشبه حبيبة قديمة، طوتها الذاكرة فلم أتبينها ولا أعلم وجهتها، صدرها مكتنز، أثداء نافرة تسطع في خجل وشموخ عبر أضواء الفلورسنت السارجة والمتدلية بلمبة وحيدة سهاري كانت معلقة في سيخ من الحديد المقوي ساقطا لواجهة التراسينة والشباك الصغير.
ارتعش جسدي، عادت له نوبات البرد مع خدر ونشوة يسريان بأوصالي، تقتحمني الحقيقة، بعيدة عن الصور اللابدة في خيالي عن البنات، تتجلى الحقائق للرائي، ليست الهالات، ولا الهواجس، تحيلني لكائن آخر، لا يريد الشهوة ولا ممارسة الحب، بل احتضانها، تقبيلها، البكاء بين وركيها، لا، ليس تقبيلها فقط، بل كل ما أريده وأرجو تحققه أن ألثم شفتيها براحة، في هدوء وسكينة، أشتم رائحتها، جسدها، تحت إبطيها، فمها، عرقها الذي يكاد يحاصرني سارياً في أريج سارح وجارح، نافذا لفؤادي، غاديا، يروح ويجيء، يخدر حواسي، يؤكد حدسى، عن العشق، يسكرني، أعاود النظر لزينب فأراها تقترب،. بفم طفولي صغير، تتدلى شفتيها، فى خفة وهمس، بحبات موضوعة على لسان أحمر وشفاه قرمزية مثيرة بلون وردي أو نبيذي، أحمر فاقع، أسكرتني، لا أعي، لم أر إلا ملاكا، في روب برتقالي، تطعم العصفور، بلسان نبيذي وهج، يثيرني، تجفل عينيها، تضع الحبة على طرف اللسان، زقزق العصفور صداحا، وسط القفص، عاد حبيسا، صار ينظر إليّ
كنت، وصرت.
ـ أنا.
من أنا؟
من هي تلك الفتاة،
زينب.
بنت الشهيد عبد التواب، لم تفارق حواسى، تلهب جسدي، تشحذ همتي، أتسلل، أردد في نفسي:
ـ هل رأتني زينب؟ هل تعرفني زينب حقاً، هل شاهدتنى في أول العرب، هل أحست بوحدتي، هل تعرف اسمي، هل تعرف شيئا عن وحدتي، غربتي، حيرتي، تناقضاتي وجنونى، صمتي الذي يخفي جحيما وراء السكوت.
أسأل نفسي، هل عشقتها، أحببتها، هل ستتزوجها.
ماذا تريد منها إذن، وماذا تريد هي، من سيذهب معك لهذا البيت الجميل.
عشها الدافئ السابح في زقزقات الطيور وحمامات تحط فوق أفرع السيسبان، وسط الجذوع حتى منتهى الشراشف الحمراء
– من هو أبي؟!
أقول في نفسي..
هل أطلت في عيني الزرقاوين الزائغتان دوما في صمت وحيرة، لم تسكن الطلات ولا خمد الشرر إلا مع رؤيتها في شرفتها،خ لف النافذة، قرب البلكونة.
نعم انتبهت الآن، دائما ما كنت أسمع النداء بهذا الاسم على لسان زوجة الشهيد عبد التواب، أمها، ماما زينب. وكثيرا ما كانت تصرخ مرددة:
ـ الشباك يا زينب، العصافير، البلكونة يا زوزو.
كنت وحدي وصرت الواقف أتطلع بغرابة لسماء عالية بلا حدود، سماء حبلي بالزرقة ودموع سارحة في عيونى، سواد وبياض قليل ينسل غائصا في لحم السماء الكابية، عضوي يتمدد حتى كاد أن يخترق بنطلوني، يجتاح رومانسية ما تخرج من روحي بعدد سنين أو عقود مرت من عمري، سنوات لا تحصي يكنسها الضباب والغمام الابيض، وددت مفارقة الارض والصعود لأعلى وأمامي زينب، هي الدليل.
روحها تحلق وتهيم فأسأل نفسي من جديد، وددت سحبها من كفها، لمس أناملها الشفيفة، تقبيل أصابعها العجينية المثيرة، قضم أظافرها لحسها، أدخلها في فمي، أستنطق الخبايا من نبرات صوتها، من بين ضلوعها.
جانحا كنت، تخرج الغرابة من نفسي فأقول
من أنا، أين أنا؟!!
أنا شيطان ولست ملاكا..
يا ربي..
ولكنها زينب.
حقيقة الحلم والجمال والخفة والغنج والطفولة والسلوى تمشي على قدمين، بخفة تمشي على ضلوعي تمشي، تدوس قلبي، تنفذ لحشاي، متجاهلة ملامحي وأنا الراشق بعينيي من خلف فروع السيسبان، أبغي مغادرة الارض، أكلم الله في رحلتي، جسدي يخف، دافئا، بعزم وقوى بعداد السنين الفائتة من عمري، بلا حصاد إلا النظر إلى بيوت العرب، من أوله لآخره، ثكنات الهيئة، هالة جيهان، قصة الكاريه، خطوة الرومانتيك، فى الصباح، بعد الغروب، في طولون.
هي هنا والآن..
زينب،
جيهان؟
وأنا أسبح في ملكوت الجمال، السكينة، الصمت، الخرس، زغب زينب الأصفر يبرق تحت شفتها السفلى، حول جنائن الإبط، ترفع ذراعها الأيمن لتسوي شعرها.
هجرت أرض البيت في أول الأفرنج، خفت أن تراني، صارت معلقة بشفاف القلب، طلتها، ملامحها، جسدها، حضور لا يغيب، في عنقي، تدلت كقلادة من الماس، في عنقى، فصوص خضراء، نبيذية، من ياشب.. قلب الفتى الغريب أخضر، أردت التحليق، نظرت السماء في الصباح، في أول العرب، في محمد على، في أحمد ماهر، في التلاتيني، داخل الكنيسة، بمسجد العباسي.
وجدتني وقد صعدت، أفارق أرض البازلت، أنظر للبشر من عل، أخيرا، نظرت إليّ زينب، صرخت في وله:
ـ خذني معك.
روبها البرتقالي شف، عن جسد ملائكي، تكوينات لحمية مثيرة، طازجة، شهية، مستحبة، مجرمة، محرمة، ملائكية… أمسكت بساقي، فارقت أرض الندى، جسدي دافئ أصعد لأعلى، أحلق، أنظر للسماء السابعة، أبحث عن ربي، في أعلى عليين، أرتحل.. تتقازم البيوت من تحتي، تتعاظم جرأتي، أنفاسي، رأيت السماء من تحتي، تجلت في تكوينات هلامية، سمعت الهاتف في سطوع الضياء، قال اقترب، إنها بيوت الله في أراض أخرى، عالية، بيضاء، بلا شمس حارقة، دون بشر، بلا فقراء وجوعى، فضاءات تشبه صفاء القلوب الرحيمة التي قابلتني في الرحلة الطويلة، نفذت لنهر السماء، رأيت سكك للرحيل، للذوبان، للتلاشي، للسفر، للفراق، لتوديع الوجود، حتمية العدم، وبدايات الخلق، ذهاب الأحبة، سمعت من يهتف بي في رهبة يأمرني:
_ اصعد.
فإذا ولجت نفذت واعتليت واخترقت، وإذا دنوت احترقت
دعكت عيني لأراني آتيا من البعيد، في زمن ما لا أعلمه، يجرني رجل أسمر ينادونه أبي ويصرخون عليه، مرة بالحبشي، مرات بالصومالي، عيناه زرقاوان، أسود غطيس، يبرق في ليلي الدائم، جرني معه، قلت له:
ـ لا علم لي بالزمان، ولا المكان، لا أعي المواقيت، أجهل تاريخي.
تكرر النداء:
ـ صومالي، يا حبشي، يا حسين؟!
صار قيده أدنى معصمي، بقوة عصبه، بعصابية المنطوق من الكلم، تجلت الملامح تشبهني، قوة مفرطة تقبض على يدى بكفي، لا تفارق ذراعي، تقيد رسغي، تدهس أصابعي التي صارت ترتجف.. في نهاية ديسمبر لم أنتبه للنداء.
من بعيد.
كان طارق العجيزي يجري خلفي، ينظر لى في دهشة، فى رعب، في ريبة، ناداني فلم أجب، تجاهلت السمع، قال لي:
ـ معلم تعلب يبلغك بالعودة لتشاركنا الفطور.