فيزوف

amr ezz aldeen
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عمرو عز الدين

في المساء مات فيزوف، وفي الصباح التالي تحدّث لأول مرة.

اتخذ مجلسه المفضل جواري على الفراش وتساءل لِم أسميته “فيزوف”؟ سؤال غريب من قِط مات بالأمس رغم رصيد أرواحه الذي لم يُستهلك ولو مرة! اعتدلت وعَدَدت له الأسباب: ألم أجدك مُرتجفًا من البرد فآويتك في بيتي حتى استعدت دفئك؟ ألم تكن جائعًا فأطعمتك علبة تونة من ثلاجتي، التهمتها في دقيقتين بنهم شديد، وحبست بطبق ماء؟ إذن لدي كل الحق في تسميتك كما أريد. مع ذلك، ولأنك عشت معي ما يزيد عن ثمانية شهور، دعني أوضح ما لم تفهم.

اكتب عندك: “في صباح يوم ممطر بارد عنيف الهواء، خسر المدعو عمّار وظيفته ذات الأعوام العشرة. تلاحقت أنفاسه حين غادر المكان. لم ينجح في تهدئتها ذلك المظروف المنتفخ في جيبه بمكافأة نهاية الخدمة. تكدست الأفكار في ثنايا مخه: هل ستبدأ عملا جديدا في سن الأربعين؟ هلا عدت وتشاجرت معهم ليعيدوك إلى مكتبك؟ ماذا سنفعل في الأيام المقبلة؟ كيف ولماذا وأين ومتى وكل أدوات الاستفهام استُخدمت في مظاهرات الأفكار التي يسمعها وحده. مضى في طريقه يبلله المطر حينا، وتجففه الرياح أحيانا. أمام معصرة قصبٍ توقف وطلب كوبا يماثل في حجمه كأس العالم، أكد على البائع ألا يكون مُثلجًا، تكفيه البرودة التي تُجمد روحه الآن. عبَّ المشروب المنعش، فارتوى دون استمتاع. التقت عيناه بيافطة المحل “عصائر نابولي”، مع رسومات غير متقنة لمارادونا وسط أكوام من البرتقال والجوافة وأي فاكهة يمكن عصرها. حكى البائع أن والده عَمِلَ في نابولي الإيطالية أيام مارادونا. عِشقه للاعب والمدينة دفعه لتسمية المحل باسمها بعد عودته. سمع عمّار القصة بنصف وعي وصفر اهتمام، بينما انشغل بما يحتك بكعب قدمه: قطة صغيرة. تلفت حوله بحثا عن أمها أو عشيرتها بلا نتيجة. في البيت، وبعد رحلة قصيرة قضتها متشبثة بصدر سترته الدافئة، جففها بمنشفة نظيفة اتسخت على الفور. مواء القطة الضعيف يذيب شيئا ما في قلبه الذي تجمد طوال النهار وكل نهار. حاول تحميمها فقاتلت بشراسة وهزمته شر هزيمة. قرأ على الإنترنت بعض الإرشادات، ليجد نفسه في عيادة بيطرية لأول مرة في حياته. هناك عرف أنه قط! ما الجديد إذن؟ آمن عمّار أن حياته تتخلص من الإناث حوله كل فترة. رحلت أمه وهو رضيع، ثم مربيته عند سن العاشرة، تركته حبيبته الأولى بعد الجامعة، وأخيرا فرّت زوجته مع سافلٍ ما، لاكها لفترة ثم زَهِد رُخصَها. فليكن قِط إذن، هذا دليل بقائه. قال الطبيب بعد انتهائه من فحص القِط وتطعيمه: “هتسميه إيه؟”. قضى عمّار وقتا طويلا يفكر. راقبه يوميا علّه يظفر بطرف خيط. أراد أن يطلق عليه اسمًا يرتبط بطريقة تعارفهما. قصبة؟ مارادونا؟ يد الرب؟ عاد إلى الإنترنت. سَبِح بين المواقع والمعلومات. انتظرَ لحظةَ: “وجدتها”! قرأ عشرات السطور، ثم توقف أمام جملة: “تقع مدينة نابولي جنوب إيطاليا وبالقرب منها بركان فيزوف”، ابتسم ابتسامة لم تعرف طريقها إلى شفتيه منذ زمن طويل، لقد وجدها بالفعل”.

قاطعني فيزوف وهو يلعق باطن كفه بلسانه الوردي الدقيق: “والله مارادونا كان أرحم”. عظيم، لقد تعلم السخرية أيضا! لم أعره انتباها وأكملت: “عاش المدعو عمّار مع صديقه الجديد فيزوف وتأنَّس به في وحشته، اقتسما الطعام والشراب، الفرح والأحزان. استقبال القِط له عند باب الشقة، بعد عودته خائبا من رحلات البحث عن عمل، هوّن عليه مرارات الفشل وانتشله من الغرق في قيعان اليأس. راقب عمّار على مدار الأيام، ثم الأسابيع، ثم الشهور، نقصان سُمك مظروف المكافأة، وازدياد حجم فيزوف. اقتصد في طعامه وأغدق عليه بكل لذيذ، حتى لاحت فرصة عمل فأمسك بتلابيبها إمساك الشيخ حسني بالهرم في “الكيت كات”. شرط القبول قضاء فترة تدريبية ستقلص وقت وجوده في البيت، ولمدة 10 أيام. عَقَد قِمّة طارئة ودعا القط إلى اجتماع مُغلق: “أنت كبرت ولازم تشيل المسؤولية، البيت أمانة في رقبتك”. ترك له كميات كبيرة من الطعام المجفف، وزّعها مع أطباق المياه في أركان البيت، هكذا ضمن ألا يجوع أو يعطش حتى يعود. بعد خمسة أيام استقبله فيزوف بغضب بركاني شديد ومواء هادر، لو كان يتحدث كما الآن، لسبّ له جميع الأباء والأمهات الأحياء منهم والأموات. اعتذر له كثيرا واحتضنه بصعوبة: “اسم على مسمى يا فيزوف.. متزعلش، هانت يارفيقي”. في اليوم الأخير عاد وقد أمسى مظروف مكافأته خاليًا، كما روحه تمامًا. لم يُقبَل في الوظيفة بعد هذا العناء وخسر كل ما لديه. فتح الباب منتظرًا استقبال فيزوف، لكنه لم يظهر. ناداه باسمه وبسبسةً، أجابه مواء خافت ضعيف أعلن عن وجوده بالداخل، راقدا فوق بركة من القيء والبول، لا يقوى على رفع رأسه أو تحريك جسده. دبّ الفزع في قلب عمّار، جرى كالمجنون يطرق باب جاره الذي لا يعرف اسمه طالبًا قرضًا حسنًا يعالج به قطه المريض. في العيادة شرع الطبيب في إسعافه، أزال فرو ذراعه وغرس فيه إبر المحاليل، سحب عينات من دمائه، تحدث مع زميله عن أعراض تسمم! هل كان الطعام السبب أم سراب العمل الضائع أم هو نفسه؟ أمسك بالكفوف المخملية لفيزوف المستلقي على طاولة الكشف مخدرًا زائغ العينين، مطالبًا إياه بالصمود: “شدة وتزول ياصاحبي”، لكنها لم تزُل. كل أطباء العيادة وممرضيها ومرتاديها كانوا يواسون عمّار الذي نظر بصمت لجثمان القِط الهامد، ثم انفجر في بكاء عنيف. بَكى فيزوف كما لم يبك أحدا من قبل. الحقيقة أنه بكى كل شيء؛ قِطه وأمه ومربيته وحبيبته وزوجته وعمله وحياته ووحدته. حين انتهى من البكاء سأل الطبيبَ بصوت مبحوح: “أدفنه فين؟”. لم يكتسب بعد خبرة دفن القِطط حين تموت. هام على وجهه حاملا الجثمان الملفوف في كيس أسود تحيطه شرائط رمادية، أحكم الممرض لصقها بعناية، ناصحًا إياه بدفنه في أي حديقة. اقترب من إحدى المناطق المزروعة وبدأ يحفُر. انتبه لبعض الأقدام الملتفة حوله وأصحابها يتساءلون بريبة عما يفعل! أجابهم بصوت متهدج وعينين مبتلتين بالدموع، فقابلته ضحكاتهم الساخرة: “ياعم ارميه!”. لم يدركوا أن فيزوف صار ابنه وليس مجرد قط. أهال التراب عليه وغادر في أسى تشيعه ضحكات الواقفين”.

انتهيت من الحكاية، فقال فيزوف بلا اكتراث وهو يلعق مؤخرته: “قصة مؤثرة جدا”. قلتُ إنها كذلك لكن النهاية أصبحت سعيدة، ها قد عاد من الموت ويتحدث، فماذا أريد أكثر من ذلك؟ تنتظرنا أيام من اللعب وتبادل الحوارات وتعويض ما فات. سأجد عملا ونسد جوعنا ياولدي. تكور فيزوف حول نفسه كعادته، ثم همس: “بس أنا مرجعتش ياعمّار”.

في المساء مات فيزوف، ومات بعده عمّار حزنًا عليه، وفي الصباح التالي تحدثا سويا لأول مرة.

 

الإسكندرية

16 ديسمبر 2023

مقالات من نفس القسم

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

النملة

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الكلب

ashraf al sabbagh
تراب الحكايات
د. أشرف الصباغ

الطيور