سما سالم
يشاركنا الكاتب والدكتور “أسامة علام” في مجموعته القصصية الجديدة عن دار الشروق ” طريق متسع لشخص وحيد”، حكاياته في الغربة من بلاد عديدة وهى حكايات تمتزق بتفاصيل الواقع مع خياله المدهش في نسج قصص نضعها دائماً في اطار العجائب.
ينقسم الكتاب حسب حكاياته مع لوحات داخلية بديعة للموهوب”محمود عبده”، إلى اثني عشر قسم كل قسم يحمل اسم مدينة “نيويورك، نيوجرسي، باريس، مونتريال، تولوز،أولاندو، أدمنتون، القاهرة، الشام، سان جون-نيوفوندلاند، ميامي، شيكاغو”
وهنا يبرع الكاتب في خلق حكايات من واقع البلدان التي يزورها وحيداً حيث يعيد اكتشاف حقيقته وسط عالم لا يألفه ، وينقل بورتريهات لشخصيات مختلفة ويمزجها بتفاصيل المكان مع واقع حياته وأفكاره التي تؤنس غربته.
السمة الأساسية للحكايات هى السعي إلى نقطة نور وسط ظلام الوحدة، أن نرمي بأرواحنا وسط الزحام علنا نجد ما يؤنس الوحشة التي نعاني منها، أُنس يستطيع أن يمرر ساعات النهار والليل حتى تمر بخفة أيامنا.
كوب قهوة/ من الظل..
في قصة “كوب قهوة” يجلس الدكتور يشرب فنجان قهوته وفجأة يقتحم خلوته فريق تصوير من برنامج “واقعي” ينقل حياة الاشخاص دون سيناريو محدد، فينفعل البطل بفعل المفاجأة يجلس وحيداً يحتشي قهوته ثم يتم بث مباشر لصورته ويشاهده آلاف من المشاهدين، وينتنج عن هذا الانفعال سرعة بديهة وتقديم لشخصية خيالية تمنى لو أنه يملكها:
“كانت هذه فرصة عمري لأن أكون شخصاً آخر ولو لساعة واحدة.فتركت فنجان القهوة على الأرض وبدأت أعرف المشاهدين على نفسي.
أهلاً بكم يمكنكم أن تعتبروني صديقاً قديماً أعاده القدر إلى طريقكم.كنت يوماً ساحراً في واحة صغيرة بالصحراء الإفريقية الكبرى.عشت أيضاً مع الرهبان البوذيين أمشي بصحبة النمور في التبت.وعندما أصحبت أكثر نضجاً عملت كمهرب للأسرار بين العشاق السريين في القصر الملكي بإنجلترا العجوز، كل هذا مر سريعاً جداً إلى أن أتيت إلى امريكا.حياتى الشخصية لغز كبير لا يمكن فهمه.لكنى أعرف السر الذي من أجله يتم التصوير الآن معي.فأنا ببساطة أستطيع أن أراكم جميعاً من خلال رؤيتكم لي.يمكنني أن أطلع على أسراراكم الخاصة والتى من أجلها أعطانى المخرج هذا الشيك قابل الدفع لحامله.“
لقد تحول عالم البطل في القصة من الوحدة والسكون في الواقع إلى حيوات أخرى متعددة الحكي والعجب في البث المباشر، خلال دقائق أعاد البطل نسج حياته واختلق الاحداث وعايشها لينقلها مباشرة وكأنها هى عالمه الواقعي، وقد حاول أيضاً أن يخلق متعة للجمهور لكنه على ما يبدو قد افتقد خلوته خاصة وأن اقتحام عالمه كان عنوة فورط المخرج في كذبة على الهواء مباشرة، وتخلى عن الشيك قابل الدفع ليعود إلى الهدوء وهو يسترق السمع لصوت طرقات نقار الخشب على الشجرة أمام النافذة.
يعتبر الكاتب الاسباني “خوان خوسيه مياس” هو رائد الكتابة عن العالم المعاصر بتفاصيله البالغة التعقيد والوحدة التي نعانيها الآن، في مشهد موازي عن الوحدة والتهمييش، يحاكي بطل روايته “من الظل” جمهوره في برنامج واقعي بحضور الجمهور، يحاول فيه البطل أن يروي أفكاره واحداث حياته في اطار عبثي ضاحك حتى يحقق المتعة للجمهور ول”سيرخيو أوكان” وهو محض صورة خيالية ابتدعها البطل ليكلم نفسه من خلالها حيث كان يحكي له كل ما يحدث لحظة حدوثه عبر لقاء متخيل يبدأ في الصباح وينتهي في المساء، ويذاع اللقاء مباشرة على التليفزيون على الهواء مباشرة.
بدأ اللقاء المتخيل والشخصية توجه للبطل سؤالاً في صميم حياته
-“منذ أكثر من شهرين وأنت بلا عمل. منذ طردوك بلا رحمة، من المؤسسة التي عملت بها لأكثر من خمس وعشرين سنة“
ويحافظ البطل على عبثية الحوار أمام الجمهور بحيث يهرب من الواقع المباشر بألمه ويذوب وسط الجمهور وضحكاته التي خلقها بنفسه ولنفسه!.
فيقول: “انفجر في الضحك جمهور الاستديو. كانوا يضحكون باستمرار من تجاوزات “دميان” –وهو البطل- التى لم تكن ظريفة بالضرورة. لكنه إن كان يتخيلهم يضحكون، فلابد أنهم يضحكون، ماذا بوسعهم أن يفعلوا؟!”
من أجل صحبة لطيفة
نقدم جميعاً على أفعال عدة قد تكون لطيفة أكثر من اللازم وقد تكون غاضبة أكثر من اللازم أو ربما حمقاء لكن جميعها تهدف لشئ واحد هو لفت الإنتباه أو الإعلان عن الوجود كى نظفر ولو بالقليل من القبول والود والحب وحتى الونس، وذلك في الأخير جزء أصيل لا يمكن الاستغناء عنه من تحقق الإنسان لذاته.
“من أجل صحبة لطيفة” هو عنوان احدى قصص “طريق متسع لشخص وحيد” وقد يصح ليكون عنواناً عاماً للمجموعة وأيضاً لحياة الكثير منا.
في هذه القصة التي تدور أحداثها في مكتبة ضخم بمونتريال، وعادة ما ترتبط المكتبات بالأحداث الغرائبية في القصص، وهنا تتهم أمينة المكتبة التي قضت 40 عاماً من عمرها بين جدران هذه المكتبة بأن زوارها يسرقون الكتب وتلمح في كلامها أن بعض الكتب تختفي!
وبطل القصة يواظب على حضوره للمكتبة في حضور ونس الكتب وأيضاً فأر صغير أبيض وصفه “بأن منظره لا يخلو من لطافة بادية”، اكتشفه بين الأرفف وعلى مر الأيام يصبح صديقه وقد أسماه “فوزي”، ليكتشف في النهاية أن هؤلاء “اللطفاء الصغار” هم سر اختفاء الكتب وهم السر الذي لابد أن يحافظ عليه مع صداقة “كاترين” أمينة المكتبة وكل ذلك كان من أجل صحبتهم اللطيفة ولأن لا أحد يهتم!
سلفادور دالي/ أسمهان
أمضيت الكثير من السنوات وأنا روحي معلقة بشخص وروح “أسمهان” ليس فقط كصوت طربي أصيل يبدو كقطعة من الجنة أو درب من الخيال، لكن شيئاً ما في روحها وملامحها قصتها واحداث حياتها الطريقة التي تغني بها والطريقة التي تعبر بها عن شغفها وحبها:
“يا حبيبي تعالى الحقني شوف اللي جرالي ..من حبك”!
وأنا كاتمة غرامي وغرامي هالكني!
” كان لي أمل القى نديم الروح اقضي الشباب وياه زى الطيور”
كنت امضي الكثير من الوقت استمع لصوتها أو أحدق بها وهى تغني “ليالي الأنس في فيينا”.
قرأت الكثير عنها ورأيت الكثير أيضاً من الأفلام الوثائقية عنها، كان الأمر أقرب للهوس لكنها لم تكن حالة جنونية عابرة بل اعتقاد راسخ إلى الآن بأن شيئاً ما يربطني بروح هذه السيدة إلى الحد الذي جعلني أتصور أحياناً أنيي ربما سأموت في نفس سنها وهو ما لم يحدث للأسف!
ويروي الكاتب “أسامة علام” في احدى قصصه عن هوسه وعشقه ل”سلفادور دالي” بافتتاحية قد تفسر لي الكثير من هوسي بأسمهان :
“ماذا سيحدث لو اخبرتكم بأنني أحب الخيال أكثر مما أنتمي للواقع.أنني شخص يؤمن بأنه لا يعيش في بعد واحد من الحقيقة. وأن وعيه يحتل جسده كرداء لحظي لا يمثل الدوام بأي شكل . وأن كتابتي لقصص واقعية يرعبني بدرجة لا توصف؟”
“عشت عمراً كاملاً أؤمن بأني كنت أعيش في لحظة ما في جسد دالي، أنا أتحدث عن اعتقاد راسخ بأن دالي تربطه صلة قوية بي ربما أنا أخوه الميت أو ربما كنا صديقين.أو ربما كنت أنا هو“
ثم يبدأ في سرد أحداث وجوده مع “دالي” أمام برج إيفل.
وأنا أقرأ وأحاول التذكر ربما كنت في حياة أخرى مع أسمهان على احدى شواطئ الاسكندرية، وربما يكون جزءًا من روحي ينتمي لهذه القصص.
قد تحتاج حياتي إلى ونس صغير مبهج كالفأر الصغير الذي خبأته أمينة المكتبة، أو إلى هوس بالتفاصيل كالهوس ب”سلفادور دالي”، ولكن الأكيد أن ملامحي تتشابه كثيراً مع العالم الذي يتسع لي دائماً عالم قصص “أسامة علاًم”، لأظل أختار في الحياة كما اختياره في ديزني لاند لشخصية “بندق” طيباً ولا يتوقف عن فعل اللاشئ في حياته!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية