عبد السلام بوزمور
لا تعْجَبْ يا أبا العلاء مِن تَبْكيري باللِّحاقِ بك في هذا العالمِ، وأنا في رَيْعانِ الشَّبابِ، واحْفَظْ عَجَبَك حتَّى تسمعَ منّي.. فشتّانَ بينَ عَمايَ وعَماك.
أنا ما تركتُ الحياةَ الدُّنيا زاهداً فيها، ولا كارهاً القُرْبَ مِن أحِبّائي، ولكِن تركتُها مُكرهاً، يا أبا العلاء، تركتُها رحمةً بنفسي ورأفةً بأهلي.
أنا متُّ مرَّتَينِ يا أبا العلاء.. مَهلاً.. لا تنظرْ إليَّ هكذا.. قلتُ لك لا تعْجَبْ.
لم يكُنْ مَوتي الذي ساقَني إلى هذا العالمِ سوى تحْصيلِ حاصلٍ.. كان قراراً..
حينَ خَرجْتُ من غَيبوبةِ العمليةِ الجراحيةِ الدَّقيقة، وفتحتُ عينَيَّ على سوادٍ، أكَّدَ الأطِباءُ أنه لنْ يزولُ، قرَّرتُ أنْ أموت.. وقدْ ترَسَّخ هذا القرارُ حين أيْقَنتُ من وعدِ ربِّي أنَّ مَن صَبرَ على ابتلائه بأخذِ بصرِه عوَّضه الجنة [1].. فقارنتُ مآلي السَّعيدَ هذا، أنا الحامد اللهَ دوماً على كلِّ حالٍ، بِما أنا فيه من جحيم، تخْترِقُني سهامُ الشَّفقة الحارقة القاتلة، كُلَّما خرجتُ متأبِّطًا ذراعَ أبي أو أمي، أتَلمَّسُ الطريقَ بخُطى ثابتةٍ ورأسٍ مرفوع، وعينَيْن جميلتيْن مُشرَعتين تَتلأْلآن من غير نور. ويُضاعِفُ ألَمي ذاك الإحساسُ بالمَرارة الذي اسْتشْعِرُه عبْر نَبضاتِ وزَفَرات ونَبرات أبي أو أمي.
أَجَلْ يا أبا العلاء، الموتُ قرارٌ وإرادة، كما الحياةُ إرادة، على رأي شاعرٍ عاش في عصرنا ومات هو الآخرُ شابًّا.. قد يكون هو أيضاً قرَّر الموتَ بعد أنْ يئس من بثِّ إرادةِ الحياةِ فينا.
هَلُمَّ نجلسْ على تلك الرّبوة، لأكملَ لك الحديثَ عن موتي وموت الشباب في بلادي؛ فأنا، دائما، أحبُّ الأماكنَ العاليةَ المُشرِفة، هي عادةٌ رافقتْي من الدنيا وأضرَّتْ بي كثيراً هناك.
فكرتُ في البداية أن أسْتلهِمَ تجربتَك أنت وأحدِ المهووسين بك، في عصرنا، اسمُه طه، سأحدثك عنه وعن أشياء كثيرة، لاحقا، فأمامنا، والحمد لله، من الزمن ما لا يُحَدُّ؛ ولكِنَّني خَلَصْتُ، في الأخير، إلى أنَّ ذلك لنْ ينفعَ، بعْد أن قارنتُ حالي بحالِكما، فوجدتُ أنكما دخلْتما دُنيا العَمى في سِنٍّ مُبكِّرةٍ، كان كلٌّ منكما فيها صفحةً بيضاءَ، وعجينةً مِطْواعَةً قابلةً للملْء والتَّشْكيل حسبَ الظروفِ الجديدة، فاستطعتما التأقلمَ، نسبيًّا، مع واقعيْكما؛ وتأكّدتْ لي هذه الحقيقةُ حين قارنْتكُما ببَشَّار، فوجدتُه قدِ انْسجَم مع واقعِه كلَّ الانسجام، وعاشَ حياتَه بالطولِ والعرض، دونَ عُقدٍ، لأنَّه وُلِدَ أعمى. بينما دخلتُ أنا ذاك العالمَ في العشرين من عمري، فكنتُ أشبه بجُندِيٍّ مُقبلٍ على معركةٍ حاسمة، تدرَّبَ طويلاً على خوضِها، وهيَّأَ لها كلَّ ما يلزَمُ من أسلحةِ النصر، ليكتشفَ، فجأةً، أن كلَّ ذلك ما كان سِوى حُلمٍ تبَخَّرَ، وما عليه سوى البَدءِ مِن جديدٍ. ماذا تنتظرُ منه حين اكتشف أن أسلحتَه وتداريبَه غيرُ صالحة، بعد هذا العمر، غيرَ الاستسلام؟
لا تنْدهِشْ من إصرارِ شابٍّ أعْمى على الموتِ مبكِّراً، في عالمٍ عجزَ فيه الشبابُ المُبْصِرونَ وحارُوا؛ فزمانُنا غيرُ زمانِكُم، يا أبا العلاء. قلْ لي، بِرَبِّك، كيفَ أُغَلِّب، أنا الأعمى، إرادةَ الحياة، وحوْلي جيوشٌ من الشبابِ المُبصرِ القَويِّ الطّموحِ المُحبِّ للحياة، منهم من يقامِرون بحياتِهم، كلَّ يوم، فيُلقون بأنفسِهم إلى عُرْضِ البَحر، وهم يُدرِكون أن نصيبَهم لن يتعدَّى كونَهم وليمةً لأسماكِه أو مَلفوظين على أحَد شُطآنِه القريبةِ أو البعيدةِ غَرقى أو أشْباهَ أحْياء. وآخرون فرُّوا إلى حِضنِ بحرٍ آخَرَ لا ساحلَ له اسمُه المخَدِّرات. ولِأجعلَ لك صورةَ المأساة أقربَ وأجْلَى: كمْ شابٍّ تمكَّنَ منه اليأسُ فغادرَ إلى عالَمنا هذا حارِقًا نفسَه يأسًا، أو قهرًا، أو احتجاجاً… غيرَ مُبالٍ بما يحتَملُه ذلك من تَحقُّق وَعِيدِ الخُلودِ في النار، مُرجِئاً الحُكمَ في ذلك لربِّه.
لا تُكمِلْ يا أبا العلاء، قد فهِمتُ القَصدَ من إشارتِك.. كأنَّك تحْمَدُ اللهَ على أنك لم تُخلِّفْ ذُريةً تعاني هذا المَصيرَ.. تريدُ القولَ إنك كنتَ على صوابٍ حين قرَّرتَ عدَمَ الإنجاب، لأنَّك اعتبرتَ ذلك جِنايَةً من السَّلفِ على الخَلَف[2].
لا، مهْما يكنْ قصدُك، ومهما تكن فلسفتُك لقناعتِك هذه، فأنا أخالفُك الرَّأي.. الآباءُ، في زمانِنا، مَساكينُ كالأبناء يا أبا العلاء؛ هم ليسوا جُناةً، ولكنَّهم ضَحايا مَجْنِيٌّ عليهم، فالابنُ مِنَّا يظَلُّ عالةً على أبيه تلميذًا ثمَّ طالبًا ثم عاطلا؛ ورُبَّما، عاملاً وأَباً، إلي أنْ يتساوَيا شَيْباً وصَلْعاً؛ بلْ ربَّما يموتُ الأبُ، والابْنُ ما يزالُ عالةً عليه. وقدْ يموتُ الابنُ مِثْلي ومِثلُ الكثيرين ممَّن حدَّثتُكَ عنهم، ويُحْرَمُ الأبُ مِنْ صَدَقةٍ جاريَةٍ، فيظَلُّ يدعو لِابنِه بَقِيةَ حياتِه، عِوضَ أنْ يدعُوَ لهُ الابنُ بَعدَ مَماتِه.
أتَدْري يا أبا العلاء، إنَّني أخْجَلُ مِن دمْعِ أبي، وهو يدْعو لي بالرَّحمةِ عِندَ كلِّ سَجْدةٍ في صلَواتِه، فتَصِلُني دعَواتُه برداً وسلاماً، كأنها نَفحاتٌ نُورانِيةٌ، فتنْتَعِشُ بها روحي، ولا أمْلِكُ إلاّ أنْ أُرَدِّدَ مع نفْسي في ابْتِهالٍ كأنّهُ نَشيدٌ: لا تَحْزَنْ يا أبي.. لا تحزنْ، إِنَّنِي سَعيدٌ.
…………………………..
[1] – عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ، ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ منهما الْجَنَّةَ، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ.
[2] – إشارة إلى العبارة التي أوصى المعري أن تكتب على شاهدة قبره: هذا جناه أبي عليَّ وما جَنَيتُ على أحد.