لاتراودني. وأنا هكذا هكذا :لن
يغيرني شئ ، كما لم أغير أنا
أي شئ… فلا تحجب الشمس عني!
فقلت له : لست اسكندر المتعالي
ولست ديوجين
فقال: ولكن في اللامبالاة فلسفة،
إنها صفة من صفات الأمل! ”
تبدأ رحلتي عادة من ميدان التحرير وليس من أمام بيتي بعد استقلال تاكسي ما. فالميدان هو عنق الزجاجة التي يعني الخروج منها : “الخروج” بالمعنى الكامل للكلمة ـ البداية.
والتحرير ليس اسما بالصدفة !!
ميدان “السادات” ـ رحمة الله عليه ـ والمكتوب بالأبيض على لوحة زرقاء لتدشين الاسم الجديد ،والذي تحول إلى شبكة عنكبوتية من الحواجز والموانع والعوائق مخططة ومهندسَة بذكاء نادر، شبكة تحار الأقدام والعقول كيف تخرج منها دون التحايل والالتفاف لكسب الوقت. الوقت …………. رحمة الله عليه هو أيضا.
ونحن الآن في الصينية الأولى في الميدان ، بنهاية شارع القصر العيني، تلك الصينية التي تقابلك قبل دخولك إلى الصينية الثانية حيث يقف البطل الشهيد : عبد المنعم رياض ليجمّل الصينية بزيه العسكري منتصبا لامعا تحت الشمس بخامته الجديدة من البرونز.. الشهيد .. آه !!
وبرغم كوننا لانعرف شيئا عن ظروف شهادته لكنه الشهيد عبد المنعم …الذي يقف معزولا في ارتفاعه عدة مترات عن المارة والراكبون أيضا .بينما تحط الطيور كيفما تشاء وقتما تشاء … مابين غربان وبعض الحمامات الضالة عن السرب .
لماذا أفكر كل هذا الوقت فيه .. لاأعلم ..لماذا أفكر كثيرا اليوم في الصينية الثانية بينما مازلت لم أبرح الأولى بعد ؟؟
التاكسي الآن متوقف لأسباب أهمها أن الإشارة خضراء وحمراء وبرتقالية. ياسلام .. إشارة كاملة المعاني والله !!
بجواري ولكن أعلى قليلا تهاجمني أسراب من النظرات التي تقلق جلستي وتمنعني إلا أن أتململ فأقرر أن أهاجمها واقتص لنفسي. ثم أملّ ذلك كله ـــ تبادل إطلاق النظرات ـــ فأتخطاه إلى من يقود هذا السرب المحمول من البشر ـ قائد الأتوبيس.
وبينما تقع عيني عليه الآن ، أراه وهو يهمّ بإلقاء شيء ما …………. . من بُعد ، ومن خلال وضع اليد الأخرى الحاملة زجاجة مياه بلاستيكية مملوءة من الحنفية ـــ ربما حنفية بيته أو أي حنفية عمومية على الطريق ـــ لايتضح إلا لون مياة باهت بفعل قدم الزجاجة واتساخ جلدها البلاستيكي من كثرة الاستخدام . في زمن ما كانت مياة معدنية لإحدى الشركات المتعددة الملكية الآن : نستلة ـــ بركة ــ أكوا ـــ حياة ـــ صافي ـــ مينرال ……..عافية ……….
نزعت هويتها الورقية بفعل يد ما .. في زمن ما ..
في زمن ما ، أفرغها فم آخر في معدته وألقاها ؛ لتلتقطها يد أخرى وتعيد ملأها واستخدامها.
وضع اليد التي ترفع الزجاجة جعلني أخمن ماتفعله الأخرى التي ستلقي شيئا ما في الحلق.
يد تلقي والأخرى تهم بإتباع ذلك بجرعة ماء تسهل عملية البلع .
أي قرص يتناوله قائد هذا الباص في زحمة الميدان وانسداده؟ أقرص أو أكثر؟ ولأي مرض؟ ومدة المفعول؟ والأعراض الجانبية ؟
باغتني السائق وأنا في زحمة الأسئلة بنظرة جانبية تقول لي إنه يعرف فيما أفكر، أو ربما أراد أن ينقلني إلى بعد آخر!!
من موقعه في العلالي ابتسمت له، لم يرد الابتسامة، وأخذ فوطة برتقالية باهتة متسخة ، مسح بها وجهه وأعاد مسح جبينه مرات.
يده ذكّرتني بجبيني فلمسته.لكنني توقفت مع صوت سعاله الجاف الخشن .
والساعة في الميدان تشير إلى السابعة والربع ـ بحسب الساعة التي تعلو فندق النيل هيلتون .
الباص ليس ممتلئا باللحم بل ـــ على العكس ـــ الكل جلوس في حضرة الميدان وهناك كراس خالية. ثمة أمر مريب !! سوّلت لي نفسي!!
كل الاتجاهات ثابتة في أماكنها، مما يوحي بمرور ركب مهيب .لكن من ياترى من المسؤولين سيعبر في هذا الوقت؟ من منهم……؟
ربما هناك حالة وفاة مثلا …؟؟ يكون الريس مات ياولاد !! صوت لاوجه له جاء من نافذة ما .. هناك ..
فجأة فتحت باب التاكسي ، اعترض السائق بشدة ذاكرا لي خطورة الأمر خاصة لو كان المسؤول الذي سيمر كبيرا. أما إذا كان ـ والعياذ بالله ـ ………… فتبقى ياداهية دقُّي!!
حركة فتحي باب التاكسي كانت مفاجئة لي أنا أيضا . لمَ فتحت الباب؟
أغلقته وعدت بعيني ـ من جديد ـ إلى سائق الباص الذي كان يرمي رأسه إلى الخلف ناظرا إلى السقف ومديرا صوت عبد الباسط : ” ربنا لاتؤاخذنا إن …….”.
ينقطع الصوت بفعل عربات مطاردة/ أتاري من بعيد .يتنهد سائقي : الحمد لله …شكلها خلاص هانت..!!
أضحك :
ــ انت بتحلم . كده وبالسرعة دي؟؟
ــ ……………….بقالنا نص ساعة ياهانم !! سرعة إيه؟ دلوقتي ….
أعود بعيني لأظافر سائق الباص .. طويلة متسخة ومقوسّة كأنها لنسر ..سئم العلو والقنص فارتكن لجذع مال به واستقر.
عبور …عبور خاطف كأن الركب لايمر بميدان التحرير.لكنك تلمح ـ برغم السرعة ـ لون الركب الأساسي : الأسود، والنوافذ سوداء تخبطها شمس واهنة لاتؤثر إلا من الخارج؛ فالداخل مبطن بزجاج عازل للصوت وضد الرصاص وأضف إلى ذلك الستائر . فماذا تفعل شمس عزلاء !!
شمس كانت ابنة السابعة والربع وأصبحت ابنة السابعة وخمس وأربعين دقيقة.
لا أدري، ربما هو السن ، فالواحد بعد الاربعين يصاب بمرض غريب أعراضه عدّ أي شيء يراه. سمّوه “مرض العد ” ، أو أي اسم آخر المهم أن يرتبط بالإحصاء.
انشغلت بعدّ سيارات التشريفة ، ” التشريفة ” ؟ من العبقري الذي أطلق عليها هذا الاسم؟؟
كانت التشريفة سيارتين أماميتين وأخريين خلفيتين ، واتنتين عن اليمين واثنتين عن الشمال. وفي المنتصف الهدف المطلوب حمايته يبدو قزما بسيارته ، وسط أعداد سيارات الهامر المهيبة.
تنعطف التشريفة قاصدة ظهر الميدان ـ مؤكد مبنى السفارة الأمريكية.
ــ احنا المسؤولين بتوعنا مايصحوش بدري كده.
أضاف سائق التاكسي.
يعود الميدان إلى سابق فوضاه.
ــ نص ساعة ياكفرة ، الله يخرب بيوتكم.
لم أعد أدري من الذي يصيح الآن.
تتلاقى الاتجاهات فيسألني السائق:
ـــ قلتي لي على فين ياأستاذة؟
ـــ خد اكتوبر ، عايزين التجمع الخامس.انت نسيت؟
ــ والله أنا نسيت إسمي ربنا يتوب علي من الشغلة الهباب دي !!
يشعل سيجارة.
يدير المحرك الذي كان قد أوقفه ؛ لتوفير البنزين.
لم نتحرك بعد. كانت ـ فقط إرهاصات بالحركة: كلاكسات ، عوادم متفجرة من الكبت ، سب وشتم ولعن سنسفيل ،استغفارات ، أصوات إذاعة إف إم أغاني:
” ابنك يقول لك يابطل هات لي نهار…………….”
ــ هو بكرة عيد وطني ياريس؟
ــ يجوز ياهانم ، حد عارف لهم…………. عايزينه وطني يبقى وطني!
صوت قذائف الشتائم يعلو ويمور …
ــ المجنون دا راح فين ؟؟؟
ــ حد يسيب قتيل كده ويهرب؟؟
ــ دا لازم يتحاكم؟؟
ــ يمكن كان عايز الحمام؟
ــ يعني حبكت دلوقتي؟
ــ اتفو على اللي……….
ــ طب كان يركنه على جنب ويغور في الداهية اللي عايزها. يسيبه كده في بحر الشارع؟
ــ إحنا المصريين كده مش هنتقدم ولا نتحضّر أبدا!!
ــ هي أصل الحكاية كانت ناقصاه.
لم أفهم لمن توجه كل هذه الجمل.
فتجميعها لم يكن يعني أن سائق الباص ـ الممتليء ببشر انتهزوا فرصة وقوفه وصعدوا خوف التأخّر عن أعمالهم ومصالحهم ـ قد تركه وفرّ بجلده.
لكن كانت تكفي نظرة على كرسي القائد لتعرف أن المكان خال، وأن الباص رابض في حضرة الميدان ، عائم في انتظار ما.
لا مسؤول ولا تشريفة الآن ، إلا أن الميدان لم يعد أيضا قادرا على تجاوز شلله المفاجئ ، وغليانه ، لم يعد قادرا على احتمال باص مملوء عن آخره باللحم. باص دونما قائد ـ
نراه يقف الآن بعرض شارع القصر العيني ، في غفلة من الجميع ، مخرجا لهم لسانه!
خاص الكتابة