” في أعماق المقهي الصاخبة …”
كانت ٍ تلك هي الكلمات التي كتبها الشاعر اليونانيّ: قسطنطين كفافيس، أتت علي ذهني بينما كنت أجلس و برفقتي تلك الانثي الجميلة في مقهي القهوة البرازيلية في محطة الرّمل بالاسكندرية ،و لا عجب ؛فكفافيس قد عاش زمان طويلا في الإسكندرية –علّه زار تلك البقعة- و لكن أظن ما جعلها تأتني في هذه اللحظات بالذاتٍ هي عندما شرد بصري و رأيتها … هي هي كما هي لم تتغيّر..
مرّت الذكريات كشريط سينمائي ..
فلاش باك إلي الماضي ،
موسيقي تصويرية : سوناتة باخ الاولي و صوت كفافيس يواصل إلقاء القصيدة..
” في رتابة شيخوخته البائسة ،
يتأمّل…”
تلك العيون التائهة التي لا تدري عن اي شيء تبحث ،حائرة ،كالعادة تشرب قهوتها الصباحيّة المعدّة بعناية و لكن ، بنكهة الضجر المعتادة ..
كانت –و مازالت- تعمل في مكتبة الإسكندرية ، كنتُ دائم التردد بصفة يومية تقريبا هناك ،فحفظتني ، لأنها تعمل كمنسقة هناك و مساعدة ، كنت اذهب إليها و أسأل عن كتاب ما فتطبع اسمه علي الحاسوب ، و تكتب رقم رفّه و مكانه بالضبط ،و بطبيعة الخال يتكرر الحدث فتعارفنا ،
توطدت الصّلات عندما صادفتها في مثل هذا المكان من خمسة عشر عاما ..هي كانت في الثلاثين و أنا كنتُ في العشرين ..
” يتأمل ،كيف أنه قليلا ما استمتع بالأعوام ،
حين كانت لديه القوة و الفصاحة و الجمال“
يوما ما كنت واقفا أتحدّث إليها ، وهي علي مكتبها وسط الكتب و الرفوف ،ثم شرد بصرها لم ادري إلي اين ثم قطعت الحديث فجأة و قامت من مكانها و تحرّكت بسرعة و كأنها مسرنمة ، تابعتها ، فوجدتها توقفت عن شاب و بنت كانا يجلسان علي طاولة متقابلين بتادلان مسك ايديهم و تمتمان بما يضحكانهما معا ” أعزائي ، لستما تجلسان علي الكورنيش أو هذا مكان المغازلات !،هذه مكتبة و هذا مكان محترم “ هكذا زعقت ،” هذه خطيبتي “ هكذا ردّ الشاب ببرود ..
. . . . . . . . . . . . . .
تتصاعد الموسيقي في رأسي ، و صوت كفافيس يملؤ الخلفية بوقار :
” يعرف انه قد شاخ كثيرا ، يري و يحسّ ذلك،
إلا أنه يبدو كأنه كان شاباً بالامس “
. . . . . . . . . . . . . .
تصاعدت الاصوات و جاء الأمن ، ثم تركتهم و هي تتحدث بصوت عال و عادت ، أعتذر منها الأمن و ما ان ذهبت حتي أقترح علي العاشقين مكانا آخر مع توخّي الحذر ، هكذا فهمت من الإيماءات ، ” قلّة حياء” هكذا قالت ، و أسهبت في وصف ما يحدث عادة هنا من محادثات حب،مغازلات ، مناقشات حميمة ..
. . . . . . . . . . . . . .
” يا له من زمن قصير ، قصير للغاية..”
بعد اسبوع إلتقيتها صدفة في ذلك المقهي الذي اجلس به الآن ناظرا إليها مسترجعا ما حدث ، توجهت إليها ، تفاجأت ، تجاذبنا اطراف الحديث، عرفت أنها تاتي يوميا إلي هنا ، تتناول القهوة الفرنسية-بالمناسبة ، كانت تتحدث الفرنسية ، و اخبرتني يوما بنيّتها في الهجرة خارج مصر ن لم تعد تطيق العادات و التقاليد البالية هنا – ثم ذهبنا إلي المكتبة معا ، هي إلي عملها ، و انا إلي مطالعتي ,,,
. . . . . . . . . . . . . .
” يتعجّب كيف خدعته الحكمة ،
كيف كان يصدّق دائما –ياللجنون – …”
كانت ناشطة في منظمات عدّة للدفاع عن حقوق المراة–يوما ما أجروا جوارا صحفيا معها لأنها كانت تصطحب معها شاوكشا للدفاع عن نفسها ضد التحرّش- ” الرجل الشرقي لا يعرف كيف يغازل الأنثي ، يفكّر أنها خُلِقت لتكون جاريته” هكذا قالت لي في إحدي المناقشات ، كنتُ أُوميءُ دوما بالموافقة علي ما تقول مشجّعا إيها لتقول المزيد ، الغريب أنها كانت تتعامل بضحك و كأنها طفلة كبيرة ، ، صباحا هي في المكتبة ، ومساءا في المراكز الثقافية الفرنسي ، اليوناني –بالمناسبة ، هي من عرّفني علي كفافيس – في التظاهرات ، في الإعتصامات، كانت معجبة جدا بالشاعرة و الصحافيّة جمانة حداد ، و كنت أعرفها و تعجبني جدا إتساع ثقافتها و نشاطها الدّائم ، أطلعتني علي ديوانها المُصادر ” جُمانيات” إعجابها بجمانة كان له وجه آخر و كأنها أحد أشباهها !! و لكن شتّان !!ٍ
. . . . . . . . . . . . . .
” كيف كان يصدّق –ياللجنون –
تلك الكذبة التي تقول :” إلي الغد ، فلديك وقت وفير”
>> هل لكِ حبيب؟هل أحببتِ يوما ؟ << سألتها يوما ما بعد أن زالت بيننا الكلفة ،
قالت :” كلهن عاهرات ، و الشريفات منهن ناقصات فرصة فقط ، أليس هذا ما تؤمنون به أيها الرجال ” ثم قهقهت و قال : ” حب ؟ نحن في زمن الماديات يا صغيري ليس زمن المشاعر!!” ثم قالت هازئة:” ما هو شكل الحب صفه لي ؟ أله شكل ها ها ها ” قلت لها باسما :” كل ما يحدّ الفراغ يصنع شكلا ، و لكن ليس ما ليس له شكل و لا يُري ليس موجودا ،؛ فالهواء خفيف و غيابه لن يجعلنها احياءً هنا نتجاذب أطراف الحديث!! و لو كنت أكرهك لما كنت الآن صابرا محاولا أن أعطيك هذا الدرس” ثم ضحكَتْ ، و ضحكْتُ و قالت : ” يا لك من فيلسوف ، و لكن ليس هذا زمن أفلاطون يا صديقي ، ما زلت صغيرا !!”
. . . . . . . . . . . . . .
“يتذكّر النزوات المقموعة ،
و المباهج التي ضحّي بها ،
فكل فرصة ضائعة ، تهزأ الآن من حكمته البليدة “
كنتُ أحكي لها عن مغامراتي العاطفية و نحن في طريقنا إلي المقهي ، بدأت ذلك عندما صادفتني و أنا مع بنت بارعة الجمال ندخلت المقهي ، هاه كم حوي هذا المقهي من أُناس و كم حوي من ذكريات ، لو كانو يقدّمون الخمر أيضا هنا لحوي قصصا أكثر ! كانت تقول “ثم ماذا” تتسائل تساؤل الساخر و الراغب في معرفة المزيد في ىن واحد –حسدا ما قد يكون – كانت راغبة في معرفة المزيد و المهم … التفاصيل ..
. . . . . . . . . . . . . .
” يتذكّر النزوات المقموعة … المقموعة … المقموعة “
لا ادري هل قرأت هذه القصيدة التي عرّفتني علي كاتبها يوما ؟ هل تتردد تلك الكلمة في داخلها .. ” المقموعة ” ؟ أتذكّر كل ذلك الآن ، الخمس عشرة سنة التي مضت مرّت امامي كالبرق ، عشت شبابي ، و لم اترك قفلا للنزوات المقموعة إلاكسرته و استكشفت ، ليس من الضروري حسيا و لكن خيالا ، و هي ..؟ .. أنا سافرت ، و عُدت و تلمّست أخبارها من موظفات الإستعلامات التي صادقتهم بحكم حضوري الشبه يومي ، فعلمت أنها قد ترقّت و صارت في قسم المخطوطات، ” و لكنها كما هي معقذدة ” هكذا قالت أحداهن ضاحكة…
تستمر سوناتة باخ الأولي التي كتبها في رثاء زوجته تعبيرا عن وحدته العزف في راسي بينما يستمر كفافيس بصوته الوقور :
” فكلُ فرصة ضائعة تهزأ من حكمته البليدة ”
. . . . . . . . . . . . . .
كل ذلك مر في ذهني في لحظات ، ثم ابتسمت لا إراديا بفعل الذكريات لا الحنين ،نبّهني إلي إبتسامتي الأنثي التي امامي و لاحظت شرودي ” ماذا بك ؟ ” توقفت فجأت الموسيقي في ذهني و توقّف كفافيس و توجّهت عيناي إلي من أمامي التي لاطالما سحرتني عينيها أنظر إليهما فكأنهما خدرتاني و ابتلعتاني ! ” دينا أنا دوما معك يا أميرتي ” هكذا رددت في عفوية ..
. . . . . . . . . . . . . .
مسكينة ، أظنها لم تدرِ تلك الرعشة التي تسري في جسد البشري حينما تلتقط أذنه من كائن مضاد له في الجنس أشارة موجّهة مسموعة تحمل كلمة واحدة تهزّ الاوصال و تبعث النشوة و تشعرنا كم نحن مهمّون ،و كم هي الحياة جميلة … الإشارة هي , الكلمة هي … ” أُ ح بُّ ك ”
“بسّومي(أحيانا يصيبني السُّكْر عند نطقها تلك الكلمة ) أتفكّر في العمل أيضا !! ارجوك !! هذا الوقت لي وحدي الآن أنت لي وحدي ، !!” هكذا قالت لي ، أفقدت من حلمي و قلت : “دينا ، آميرتي ، أنا معك دوما تعرفين ” آه …
نسيت أن اقول أن هذه الانثي التي معي في المقهي هي …. عشيقتي ، أو بالاحري : زوجتي ، و لكن لا أحب إختيار الالفاظ الكلاسيكية التي يستعملها بقية الناس و لا سيما أن علاقتنا كانت غريبة ، بدأت بأن أول لقاء لنا كنا في صحبة بعضنا البعض لأشتري أنا كتاب جلال الدين الرومي الخالد : ” المثنوي ” و من ساعتها بدأت بيننا مصادفات أكثر من مجرد توارد خواطر لحدوثها بصفة شبه يومية و أشياء لا يمكن أصلا توقّعها ،هاه توأم الروح كما يقولون ، نتعامل علي أننا لسنا متزوجين بل عاشقين علي وشك الفراق ؛حتي تصير نار الحب دوما متقدة لا تقتلها العادة . غمزتُ لها بعيني و قلت : ” لنقم ، ساُحدّثك بقصّة رانيا المسكينة ” قالت: “من رانيا؟ ” أبتسمتُ ..
قمنا و بنما أنا أعبر بوابة المقهي ، التفتُّ لأختلس آخر نظرةعليها ، يعاود باخ بسوناتته الحزينة و يعاود صوت كفافيس الظهور لينهي قصيدته :
” لكنّ هذا التفكير الطويل ، هذا التذكّر الطويل ،
يصيب العجوز بالدوار
يهوي نائما،
و رأسه يستقر علي منضدة المقهي “
كم أنت رائع يا كفافيس ، التفت إلي الأمام و قد أنتهت الموسيقي في دماغي و أنهي هو قصيدته : و لكن أتسائل بعد ما حدث كل ما تنبّأ به كفافيس لها في قصيدته، هل ستترك رأسها لتستقر علي منضدة المقهي ؟