في القط الأسود..عندما يتصارع اللامنطق والمنطق في القتل

ادجار آلان بو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إيناس عيسى

إذا كنت ترغب في استمالة أحدهم وإثارة مشاعره، دون الخوض في معارك فكرية أو جدال لا ينفع أو الكذب المباشر الذي يحط من قدر صاحبه، فيمكنك أن تنسب لنفسك بعض الصفات التي من السهل أن تضعك في محل المجني عليه لا الجاني؛ كونك مثلا تعاني من اضطرابات عقلية تسيطر عليك بشدة في بعض الأحيان، وتجعلك تقترف بعض الحماقات والتي تكون غير مسؤول عنها بشكل كبير، حتى وإن كان من ضمنها القتل!

حينها يكون تنفيذ جريمة قتل متكاملة ومتقنة مجرد حالة من الهياج العصبي الذي يعفيك من الخوض في غمار الصواب والخطأ والثواب والعقاب.

في قصة “القط الأسود” للأديب الأمريكي الكبير إدجار آلان بو(1809-1849)، والتي تعد دراسة نفسية للشعور بالذنب، ستجد عقلك متأرجحاً بين المنطق واللامعقول، ومن ثم سيكون حكمك النهائي مؤجلاً. فقصص بو دائماً ما تتميز بهذا النوع المتفرد من الغموض لإثارة مخيلة القارئ  لنسج احتمالات مقترنة بالعديد من النهايات التي تبدو منطقية ولا منطقية في الآن ذاته.

 فكرة القط الاسود

تبدأ القصة بمحاولة من الراوي، وهو بطل القصة، لجعل القارئ يؤمن به بأنه ليس مجنونا، لكنه في الآن نفسه يخبره بأن روايته ليست موثوقاً بها. فما سيرويه هو شيء شديد الغرابة رغم أنه حدث ضمن الأحداث العادية. لكنه يذكر أيضًا أنه لا يلتمس أي يقين بشأن ما هو على وشك كتابته؛ فمن المقرر أن يتم إعدامه في اليوم التالي والغرض الوحيد من كتابة القصة هو تقديم الأحداث التي أرهبته وعذبته.

 يبدأ سرده عن مرحلة طفولته بأنه كان طفلاً وديعاً ورقيق القلب ومحبا للحيوانات الأليفة، وكان يمتلك عدداً منها بالإضافة إلى قط أسود “بلوتو” وكيف حافظ على هذه الحالة النفسية الجيدة حتى تزوج. ومن حسن الحظ فلقد كانت زوجته تشاركه ذلك الحب للحيوانات، لكنها كانت تؤمن بالخرافات ومنها أن القطط السوداء هي في الواقع ساحرات متنكرات،  ولكن الراوي لم يكن يعطي ذلك بالاً.

إلا أنه بدأ يشعر باضطراب حالته المزاجية يومًا بعد يوم، بسبب إدمانه الكحول مما أدى إلى تغير مزاجه بشكل عنيف مع زوجته وكذلك حيواناته الأليفة، باستثناء القط “بلوتو”. لكن على الرغم من ذلك، ففي أحد الأيام عندما يصل إلى المنزل في حالة سكر، يشعر أن القط يحاول تجنبه، وعندما يحاول جذب القط نحوه يعضه القط في حالة من الذعر، مما يثير غضبه ويجعله يفقد أعصابه ومن ثم يسحب سكين من جيبه ويقتلع عينه.

منذ تلك اللحظة فصاعدا يتجنبه القط أينما كان وهو في حالة من الرعب، فيشعر الراوي بالذنب والحزن حيال ما قام به. لكن سرعان ما يتحول هذا الحزن لسوء مزاج ورغبة في الانتقام، فيقوم بشنق القط على شجرة، ورغم أنه استمع لصوت بكاء القط وأنه بفعلته تلك يرتكب خطيئة إلا أنه يستمر في ذلك.

في تلك الليلة التي يقتل فيها الراوي القط، تشتعل النار في منزله ولكن يستطيع الهرب هو وزوجته وخادمه. ولكن من المثير للاهتمام ، أنه على الرغم من أن النيران أتت على المنزل بأكمله، إلا أن هناك حائطا واحدا ظل قائماً مع صورة قط معلق عليه.

 على الرغم من أن الراوي يشعر برعب شديد، إلا أنه يأتي بتفسير معقول لصورة القط مفاده  أنه ربما أن يكون شخص ما قد قطع الحبل حول رقبة القط ورماه في الغرفة التي ينام فيها من خلال النافذة، وبسبب الأمونيا والجير والحرارة، فلقد ترك القط أثره مضغوطا في الجص. وسرعان ما عاوده الشعور بالندم والأسف لفقدان الحيوان، وأخذ يبحث عن حيوان آخر ليحل محله.

مرة أخرى يعاود شرب الخمر، وفي أحد الأيام يجد قطا يشبه بلوتو إلى حد كبير، باستثناء جزء أبيض كبير على صدره.  يأخذه الراوي لمنزله، ثم تبدأ شخصيته في التحول مرة أخرى ويشعر بالاشمئزاز والانزعاج الذي يؤدي إلى الشعور بالكراهية تجاه القط، والتي تزداد عند اكتشافه أن القط فاقد لإحدى عينيه، تماما مثل بلوتو.  يبدأ في تسميته بـ”الوحش” ويعاوده سوء المزاج. وفي أحد الأيام، وهو في حالة مزاجية سيئة، يحاول قتل القط بالفأس، إلا ان زوجته تمنعه من ذلك فيهوى بالفأس على رأسها هي، ثم يبدأ بالتفكير في الطرق الممكنة للتستر على الجثة حتى يقرر أخيرًا إخفاءها في القبو. وعندما يبحث عن القط لقتله أيضًا لم يجده.  

تمر ثلاثة أيام ولم يعد للقط وجود. في اليوم الرابع ، يحضر رجال الشرطة للتحقيق. يتصرف الراوي بسلاسة وأريحية، إلى أن يهم الضباط للانصراف، فيدفعه شيء ما للكلام، يبدأ في الحديث عن كيفية عمل جدران المنزل جيدًا ، مستدقًا جزء الحائط الموجود في القبو الذي يحتوي على زوجته. فتأتي من حلف الجدار صرخة مكتومة في البداية، ما تلبث أن تتحول إلى عواء. في البداية يركض رجال الشرطة نحو الجدار لإزالة الطوب ليجدوا مشهدا مروعا وهو جثة الزوجة والقط ذو الفم الأحمر فوق رأسها. عندها يدرك الراوي أنه قام بدفن القط أثناء شعوره بالرهبة عندما كان يريد إخفاء  جثة زوجته.

راو لا يمكن الاعتماد عليه

البطل هو راوي القصة والمسؤول الأول والأخير عن أحداثها، وهو يضع القارئ  في حيرة منذ البداية عندما يطلب منه ألا يصدقه “لست أتوقع منكم، بل لست أطلب أن تصدقوا الوقائع التي أسطرها هنا لقصة هي أغرب القصص وإن كانت في الآن عينه مألوفة للغاية”. ثم ما يلبث أن يقول إنها “سلسلة من الوقائع العادية جدا” سيرويها كما هي دون تفسير ليطلق لخيال القارئ العنان في القيام بذلك ومن ثم يجعله يتخيل ما هو أبعد وأبشع من ما سيرويه. ثم يستدعي بعض ثقة القارئ  من خلال قوله “إنه ليس مجنونا أو لا يحلم”. فيبدأ رواية القصة بشكل منطقي ومتسلسل إلا أن تحدث بعض الأشياء التي تجعل من الأمر برمته غرائبيا ويعزي هو ذلك لإدمانه الكحول الذي يجعله متغير المزاج.

 ذلك النهج في السرد الذي يستخدمه إدجار آلان بو لجذب انتباه القارئ  يجعله يضبط مقاييس حكمه إلى أبعد الحدود، ويفتح أفق مخيلته للعديد من الاحتمالات الواردة التي ما يلبث أن يجعله يتأرجح بينها بطريقة السرد الممزوجة بالغموض.

كذلك يستخدم بو “الشخص الأول” في عملية السرد لخلق رابط بينه وبين القارئ، مما يجعله أكثر قدرة على التعبيرعن أفكاره وانفعالاته ومشاعره دون حاجز أو وسيط. ومن ثم فهو يستطيع أن يتلاعب بخيال القارئ  من خلال وصفة من السرد المتأرجح بين الواقع والخيال، فما أن يثبت أنه يعاني من خلل عقلي من خلال مجموعة من الأحداث اللامنطقية، حتى يتبعها بشيء منطقي جداً يجلبه للواقع مرة أخرى، فيظل حكم القارئ  على البطل في مخيلته مؤجلا.

بين الواقع والوهم

هناك عنصران رئيسيان يسيطران على القصة، روح الانحراف أو الخطيئة، والخرافة. روح الانحراف هي “واحدة من الغرائز البشرية لكسر القوانين وفعل الخطأ من أجل الخطأ فقط ” هذا الجزء من النفس البشرية الذي يمثل الرغبات بلا عوائق، خصوصا الرغبات الخاطئة.

من ناحية أخرى، هناك عامل الإيمان بالخرافات، وعدم وجود سببية منطقية للأحداث أو رابط بينهم. فالقصة تستمد ذلك الطابع الخرافي من اسمها وكذلك أحداثها، فالقط الاسود “الفكرة المركزية” هو إله الموت في الميثولوجيا الرومانية والذي يضفي شعور بالخوف والإثارة.

يتعامل “القط الأسود” مع مثل هذا الراوي الذي يعاني من تغير عقلي بحيث لا يمكن للقراء التمييز فيما إذا كان سببه اضطراباته النفسية أو إيمانه بالخرافات، مما يخلق صلة بين الوهم والواقع.

الجانب المتنامي للخرافات يضيف المزيد إلى جانب الوهم، في حين أن جهود الراوي لإعطاء تفسير معقول لكل حدث على حدة، يحاول رفع الوزن إلى الجانب الواقعي، فينجح في الحفاظ على التوازن على الرابط خلال القصة.

كلك يلجأ الراوي لحيلة أخرى بعيداً عن الاضطراب العقلي وهي روح الانحراف أو الخطيئة والتي تجعل الناس يفعلون أشياء يعرفون أنها ستكون سيئة لأنفسهم ولغيرهم لكنهم يفعلونها على أية حال.

خاتمة

يستخدم إدجار آلان بو عناصر عدم اليقين، كما هو الحال في معظم قصصه، في قصته “القط الأسود”. ذلك العامل الذي يجذب انتباه القراء إلى القصة بنجاح. جنبا إلى جنب مع النمط القوطي له، وأيضا الطريقة التي يترك مجالا للقارئ لاستكمال القصة والإتيان بنهاية تشبع خياله ويضعه في موضع الحكم. بو الذي يعد واحداً من أكثر الكتاب أصالة في عرض الجوانب النفسية العميقة والغامضة، يضع القارئ  في معضلة، كما في قصته “القلب الواشي” مفادها: هل يعد البطل مذنبا أم أنه يعاني من خلل عقلي وتسيطر عليه الخرافات وبذلك فهو غير مسؤول عن فعله؟

تم نشر القصة عام 1843، وكانت مصدر إلهام للعديد من الأفلام، والمسلسلات، واللوحات، والمسرحيات، وكذلك الروايات.

 

مقالات من نفس القسم