عند مطلع الفجر
من شباك القطار عند مطلع الفجر
أرى مُدُنًا في نومها
خاويةً
كأنها بهائم هائلة.
لا يهيم في الميادين الشاسعة
سوى أفكاري
ورياحٌ قارسة
وراياتٌ من الكتان باهتة على الأبراج
والطيور تصحو في الشجر
وفي الحدائق الكثيفة
تبرق أعين القطط الضالة.
ونور الصباح الخجول،
كأنه ريفية خجولٌ
تظل وافدة جديدة على المدنية أبد الدهر،
منعكس على واجهات المحلات.
أحصنة الملاهي الخشبية
وقد امتلكت أنفسها أخيرا
تدور كأنما في صلاة على محاورها الخفية
والحدائق يتصاعد منها دخان كأنها خرائب وارسو.
لم تقف بعد أولى الشاحنات
بجانب سور السلخانة البني.
عند مطلع الفجر
لا تكون المدنُ مدنَ أحد
ولا تكون لها أسماء.
ولا أنا يكون لي اسم،
إنه الفجر
والنجوم تأفل
والقطار يحدد سرعة نفسه.
***
لا ينبغي للمرء أن يندهش لو حدث ذات يوم وقرر صناع هوليود أن يذهلونا بفيلم عن واحد آخر من مجانينهم الرائعين، والحكماء في الغالب. هذا المجنون يعمل مثلا في محطة المياه المركزية التي تعيش عليها مدينة ما صغيرة لنقل إنها في وسط أمريكا.
يبدأ الفيلم مثلا في اليوم الأخير من العام. عمال النهار في محطة المياه يستعدون للرجوع إلى المدينة فرحين، مشتاقين إلى ليلة رأس السنة والسهرة التي أعدوا لها جيدا. أما عمال الليل فيرتبون لحفلة تافهة يقيمونها لأنفسهم عوضا عن الحفلات الحقيقية في المدينة. وإذا بمجنوننا يعرض على زملائه أن ينوب وحده عنهم.
لن نطيل عليكم حكاية الفيلم الذي لم يقرر أحد بعد أن يقوم بتنفيذه. اختصارا نقول إن المجنون وضع في خزانات المياه مادته الكيميائية. وفي لقطات متتابعة نرى أطفالا يشربون في أسرَّتهم قبل أن يناموا، ورجالا ونساء يضيفون قليلا من المياه إلى كئوسهم، وآخرين يضعون أفواههم مباشرة في الصنابير، ثم صمت.
المدينة نامت. ليس في المدينة كلها من منتبه وواع إلا مجنوننا. هو الآن ملك المدينة وحاكمها المتوج، ليس من ساهر فيها غيره. له الآن أن يدخل كل البيوت، وكل البنوك إن شاء، ولكني لا أحسبه لصا. إنه طامح إلى ما هو أعظم من المال، إلى ما لا يشتريه المال، طامح إلى أن يكون الواحد الوحيد المنفرد بالمدينة، بما فيها وبمن فيها. ولو لاثنتي عشرة ساعة هي التي ينتهي بعدها مفعول المادة الكيميائية وتصحو المدينة.
ولكنه فيلم هوليودي، ولا بد من أن يقابل المجنون امرأة، وحدها، في بيت بسيط قريب جدا من محطة المياه المركزية النائية عن المدينة. يعجب المجنون كيف لم يرها من قبل، كيف غفل عن هذا الجمال الذي ظل سنين في متناول عينيه. يتساءل لو كان رآها من قبل، هل كان ليقضي كل هذه السنوات في تركيب هذه المادة؟
لقد وصل المجنون إلى بيتها مرهقا، بعدما قضى ساعات يتأمل حاكم المدينة، وشرطتها، ولصوصها، وتجارها، وعتاتها، وقد استسلموا لسلطانه عليهم. وصل إليها وقد تعب من الألوهية الوهمية. وصل إليها فوجدها صاحية تقرأ مثلا في أنطولوجيا من الشعر البولندي، تحت نور سقيفة البيت، برغم برودة يناير القارسة.
قريبا هكذا من هذه المرأة الجميلة، يخشى مجنوننا من الاقتراب، كيف وهي الوحيدة التي لسبب لا يعرفه لم تخضع له؟ يكتشف أن سلطانه كان واهيا ومنتهكا، وأن ثمة من كان ساهرا طول الوقت مثله، ممتلكا نفس قدرته، ومترفعا عن استغلالها.
سترفضه المرأة. سترفض طموحه إلى أن يكون أعلى من كل الناس. وسيرجع بائسا إلى محطة المياه، مجرد إنسان تمتلئ المدينة بآلاف من نوعه سرعان ما سيدبون في شتى أنحائها. في محطة المياه يملأ لنفسه كوب ماء، وفي الوقت نفسه تشرب المرأة في سريرها كوبا آخر.
كان ينبغي أن لا يطغى الفيلم المزعوم على قراءتنا كل هذا الطغيان، كان ينبغي أن يتبقى مجال للكلام عن قصيدة زجاجيفسكي الذي لم نر في قصيدته من ساهر غيره، يصف المدينة كمن يحاكمها ويحكم عليها دون أن يمنحها فرصة للدفاع عن نفسها، كأنه هو نفسه شباك قطار لا حيلة لنا إلا رؤية العالم من خلاله. القطار الذي بينما كل من عداه نائم صار له الحق أخيرا في أن يحدد سرعته.