لم يكن موت مريم في بداية الرواية مجازاً بحال, يبدو موت مريم هو التيمة الأساسية للرواية, فبالرغم من تحرك مريم و حديثها و تفكيرها إلا أن ثم شيئاً ما تغير فيها.. منذ بداية الرواية تتطلع مريم للمرآة و تصاب بالذهول “لم يكن وجهها كما تعرفه.. شيء ما تبدل فيه. حل به او اختفى منه.. لا يهم إنما لم يعد يخصها”.. تسأل مريم عن يحيي الجندي في الجريدة التي يعمل بها فتكتشف أنه ليس ثم من أحد اسمه يحيي الجندي في هذه الجريدة.. تفتح صفحات الجريدة لتفاجئ بأن هذا الاسم غير موجود بها على اي من صفحاتها.. إذن من كان الرجل الذي تحبه و الذي أقامت علاقة معه.. و لأول مرة تسأل نفسها “هل يمكن لأسرة كأسرتها ان تترك ابنتها تعيش بمفردها دون مجرد سؤال عنها او حتى زيارة لها؟ اين هذه الاسرة اذن؟ و لماذا لم تجد ما يدل عليها حينما زارت البلدة التي من المفترض ان تكون بلدتها؟” هذه اسئلة لم تخطر ببال مريم من قبل.. هي الآن تكتشف زيف كل ما كانت تحياه من قبل.. بالمعنى الحقيقي لا المجازي.. يحيى الجندي غير موجود.. أسرتها غير موجودة “سراي التاجي نفسها لم يكن لها وجود”.. “أنا لا أحد” قالتها مريم” .. أي أن مريم نفسها غير موجودة ..هي تشعر انها تلاشت.. و بدلاً من وجودها السابق تبدأ كل شخوص عائلة التاجي تشاركها جسدها.. تحضر المقابلة أولاً بين صوفيا جدتها و بينها.. صوفيا ماتت بعد رحلة جنون طويلة و بدأ شبحها منذ ذلك الحين يجول في القصر.. و شبح صوفيا يعاني من الصمم بالضبط مثما كانت صاحبته تعاني من الصمم.. هنا تقابل صوفيا التي هي روح خالصة دونما جسد خاص بها جسد مريم الخالص و الذي تسكنه أرواح عديدة ما عدا روحه الخاصة.. تبدو صوفيا هي المقابل الحقيقي لمريم من بين كل من عرفتهم مريم الموصومون بالجنون و بالموت.. (يحيي الجندي يبدو مسكوناً بالموت.. صالح الخادم المغرم بالجنازات.. زينب الجدة التي ظلت لأيام تحرس جثة زوجها خوفاً عليها من التمثيل بها.. نرجس الأم التي تحتضن جثة زوجها و تشعر لأول مرة أنها امتلكته دونما شريك.. على العموم يبدو طقس مضاجعة الموتى حاضراً في الرواية بشدة) بالإضافة إلى هذا فأفراد عائلة التاجي يموتون و يتركون وراءها أثاراً تراود مريم كل الوقت.. “هكذا يمكن لرائحة النعناع و الريحان ان تستدعي صوفيا بشحمها و لحمها, و يمكن لسحابة من الدخان ان تذكر بيوسف و على الفور تختزل تكشيرة محفورة على الوجه كل تفاصيل نرجس, و تستحضر سرادقات العزاء روح صالح المسالمة” أي أن أفراد العائلة لا يموتون بالرغم من كون الموت هو هاجسهم الأصلي.. إنهم يرحلون غير أنهم يتركون وراءهم أثرا ما.. بالضبط كصوفيا التي رحلت و لكنهاف تركت وراءها شبحها.. و تتحول هذه الأثار لتصبح جزءاً من مريم.. و التي تخلت منذ بداية الرواية عن روحها عندما قالت أنا لا أحد.. “الأشخاص الذين كانوا جزءاً من عالمها تحولوا إلى اشباح تزورها من حين لآخر”.. هذه الأشباح ليس فقط أنها تحل في جسد مريم.. و إنما تطاردها أيضاً علىالدوام.. تطالبها بأن تنضم إليهم.. تتآمر عليها.. و تثير رعبا دائما في نفسها.. هنا بالتحديد لا يضحي الأمر خاصاً بعائلة مريم و التي هي عائلة التاجي و إنما يصبح الأمر متعلقاً بكل من عرفتهم مريم.. بمن فيهم يحيي الجندي و رضوى و إديث و فتاة المترو..
في مرحلة ما من حياة مريم تفقد ذاكرتها السابقة. تنسى كل ما تعلمته عن الرياضة و المعادلات الكيميائية ليتفهم عقلها فقط الفلسفة و المقارنات بين نيتشة و هيجل و ماركس, و هذا ناتج عن طبيعة دراستها التي تحولت من القسم العلمي إلى كلية الأداب.. و هنا تلوح صوفيا لمريم.. تلك العجوز المجنونة التي أخذت في أيامها الأخيرة تجمع قصاصات الورق من الشوارع و من اكوام القمامة.. و تتساءل مريم: هل كانت هذه الأوراق “هي ذاكرة و عقل بديلين لذاكرتها و عقلها [ذاكرة و عقل صوفيا] الذين نخرهما السوس”.. هنا ترتعب مريم من أن يكون لها مصير صوفيا جدتها التي تخلت عن ذاكرتها الأولى ومضت تقيم أو تجمع ذاكرة جديدة تماما.. ألا يبدو الأمر مشابها لواحدة تخلت عن نفسها في أول الرواية و مضت تجمع في جسدها قصاصات نفوس من كل من عرفتهم على مدار حياتها؟
هنا نصل إلى واحد من أهم فصول الرواية.. فصل كامل مروي من وجهة نظر الأخرى التي غادرت جسد مريم.. هذه القرينة التي بدأت الرواية بها و بقتلها لمريم تسمعنا صوتها.. تحدثناعن حلولها في جسد مريم ثم عن مغادرتها إياه.. تحدثنا عن حقدها على مريم .. عن رغبتها في إضعافها كل تلك السنوات أو خلخلة ثقتها بالعالم الذي تتحرك فيه.. ثم صراع كان يدور بين مريم و بين تلك التي غادرتها.. فهما الاثنتان وجدتا نفسيهما في متاهة لافكاك منها “و على من تقدم منهما أدلة كافية علىعدالة موقفها وصحته أن تطرد الأخرى من هذا الحيز الضيق”. تنظر القرينة (و التي أطلقت عليها الكاتبة لقب الأخرى) في المرآة فلا تجد نفسها. و ترى من الشرفة امرأة حولاء تحتضن رجلاً يشبه التاجي.. هل هذه المرأة الحولاء هي صورة حالية لزينب الجدة و التي احتضنت فيما قبل جثة التاجي خوفاً عليها من الثأر منها و التمثيل بها.. هذا ليس مستبعدا.. خاصة أن مريم نفسها فيما بعد و في المشهد الختامي سوف ترى أباها الذي مات و هو يحتضن فتاة صغيرة هي مريم الطفلة نفسها .. في هذا العالم يتحول الزمان إلى متاهة و لكنه بخلاف المتاهة التقليدية.. هو متاهة بفضل كون كل طرقه مفتوحة على بعضها بشكل مطلق.. في المتاهة التقليدية تنغلق الطرق أمام بعضها البعض غير أنه تكون ثم مساحة للتواصل بين الطرق, أي انها طرق مغلقة إلا قليلاً, تسهم هذه الفرج بمخاتلة التائه, بتذكيره بأنه قد يصل يوماً, كيما يتحقق الهدف النهائي: التائه لايصل و في ذات الوقت لا يتوقف عن السعي نحو الوصول, أما هنا فالطرق كلها مفتوحة تماماً, التقمص بين الشخصيات يتم بحرية شديدة.. كل الأرواح تحل في كل الأجساد.. كل الأزمنة تتداخل.. متاهة عصرية تناسب عالماً يعاني من الجهل بسبب تدفق المعلومات و لا محدويتها تحديداً.. هنا تبدو الكتابة نقيضاً لتيمة العزلة و التي اعتمدها مسرح العبث, لا عزلة هنا و إنما تدفق و سيولة لا متناهية, غير أن هذا بالتحديد ما يجعل من العالم كابوسياً.. تتلاشى هنا الحدود لا لتحقيق حلم رومانسي بعالم أكثر حرية و انفتاحاً و إنما لخلق عالم آخر أكثر بشاعة من الأول.
في فصل كامل تسرد الكاتبة عذاب (الأخرى) القرينة.. تسردها من وجهة نظر متعاطفة.. هذه الأخرى التي تمنت دوماً ملامح مريم و التي كرهتها و التي تشكو كونها تعرف كل مشاعر أهل القصر و لكنها لا تملكها.. هي المشاهدة من بعيد.. لا تعيش و إنما تشاهد.. بعد هذا الفصل نعود إلى مريم.. لا تحرص الكاتبة على وصف داخل مريم بهذا الشكل و إن فعلت فبحيادية و لامبالاة.. هي تحرص فقط على تأكيد المتاهة الوجودية التي تخضع لها مريم.. على كون كل الأشخاص الذين عرفتهم يتسيدون على تفكيرها و يتشابهون فيما بينهم و كلهم يتقدمون تجاهها محملين بنظرات شريرة.. تنقذها فتاة واحدة تشاهدها في المترو من الجنون المطبق.. تعيد لها ثقتها في ذاكرتها.. تذكرها بأن ثم أشخاصاً يمكن لها أن تذكر ملامحهم.. تذكرها الفتاة بإديث صديقة طفولتها.. و تبدأ هدنة كرفة العين تريح مريم من الأزمة الوجودية التي تعصف بها قبل أن تندلع الأزمة بأبشع صورها..
قبل نهاية الرواية تقول صاحبة بيت المغتربات لمريم بأن رضوى صديقتها و زميلتها, والتي غادرت البيت منذ أسبوع كما تؤكد لنا مريم نفسها, قد سافرت منذ ثلاث سنوات لتلحق بأبيها.. هل المرأة تكذب أم أن مريم فقدت ذاكرتها؟ كلا الاحتمالين خاطئان. ببساطة فمريم لا أحد.. مريم تتلاشى تماماً في الفصل الأخير.. لا أحد يراها.. لا أحد يسمعها.. لا تلفت انتباه و لو معارفها القدامي.. و هي ترى نفسها طفلة و ترى أباها الذي مات منذ زمن طويل شاباً.. تصبح فراغاً مطلقاً.. مجرد شبح كما أصبحت صوفيا من قبل.. لم تكن مريم تملك القدرة على الحياة بمفردها منذ البداية.. كانت مغادرة الأخرى لها بمثابة قتل لها, سواء على مستوى الحلم أو الواقع, بمثابة إخفاء لها عن الأعين.. من هي تلك الأخرى؟ هل كانت تاريخ قصر التاجي المشبع بالدماء و الوساوس؟ هل كانت الأشخاص الذين عرفتهم.. نرجس و كوثر و صوفيا و يحيي و رضوى, و الذين التحموا بها, كل بطريقته, و أضحوا يشكلون جزءا من حياتها و من روحها؟ لا أحد يعلم و لكن المؤكد أن ثم قوة رهيبة قد غادرت مريم فلم تقو بعدها على الحياة.. هنا يبدو انتصار الأخرى كاسحاً.. و هنا يبدو أنها قد صارت هي الأجدر بحجز مكان مؤقت لها في هذا الوجود في مقابل انسحاب مريم إلى دائرة لا مرئية و لا مسموعة تمارس فيها هذياناتها الخاصة.