هو من أولئك الذين لا يستأذنون أحداً…حينما يمضون باتجاه الشمس والنجمات، هو من أولئك الذين احتملوا عبء التواصل مع هذا الوطن برغم المخاضات الكثيرة والعسيرة، هو من الذين برهنوا على قداسة التراب العربي المسلم على امتداد مساحة الوطن الكبير. والرصاصة التي طالته في لندن، لم تكن بحجم الهدف..ولم تنل منه شيئاً، وإن كان قد توقف عند حدود (50) عاماً فسيبقى كل الزمن القادم عمرا له ويوما من أيامه.
واليوم، في الذكرى السادسة والعشرين لغيابه، يبدو العلي، مثقفاً عضوياً ارتبط بطبقته حتى اللحظة الأخيرة، ورفض الإغراءات والعروض الكثيرة للانحراف عن المسار الوحيد الذي رأى فيه ضمانة العودة إلى الوطن السليب..هذا الفتى المرهف الشفاف المثقف الملتزم، صاحب القضية وحامل الرسالة، كان شاهد عصره، ومؤرخ قضيته، وكانت الدنيا كلها أمامه ليمتح منها أفكاره ورؤاه، وفي ضميره هذا الكم الهائل من التجارب والأحاسيس التي جعلت منه فناناً متفرداً في فنه شكلاً ومضموناً.
من هنا ومن هناك ومن كل تفاصيل هذا الفارس العربي الذي ما تَرجَّل يوماً عن فرس الرهان، ومن خلال هذه الكلمات نحاول أن نُعيد لون الذاكرة إلى الأحمر، ونُعيد فتح كتاب الحياة لدى فارسنا الذي انتقل عبر صهوات المجد إلى فضاءات لا تنتهي، فمن 1937 إلى 1987 ومن الشجرة (بين طبريا والناصرة) إلى كل أرجاء هذا الوطن المثخن بالجراح يمتدُّ ناجي العلي مليئاً برائحة الأرض التي ترتشح الآن بدماء من مرّوا إلى حيثُ لا حيث ولا حَدُّ، محمَّلاً عبءَ المسافات، متجاوزاً حدود الذات.
ولأن ناجي العلي بريشته التي رسمت حكاية فلسطين الجريحة كان يبحث عن الحرية .. ويشعل لها مجامر البخور، ويؤجج نار الثورة والغضب والنضال من أجل الوصول إليها، فقد قتلوه ظناً منهم أن قتله ينهي الحقيقة التي مازال الفلسطينيون يرسمون ببطولاتهم ومقاومتهم أروع صورها متسلحين بفلسفة الموت والاستشهاد..فلسفة تعبق برائحة التحدي والقوة المؤدية الى الانتصار العظيم المكلل بالمجد.
وعندما أطلقوا رصاصهم الغادر على رأسه لم يضعوا في حسبانهم أن حنظلة الذي كان شاهداً حقيقياً على كل المراحل والأحداث، لم يمت، ولم يتأثر بنيران رصاصهم، بل بقي حياً متوهجاً في ذاكرة الملايين، وفي ذاكرة كل طفل فلسطيني حمل الحجارة ليقاتل بها فكانت أبلغ من لغة الرصاص.
ولم يكن هذا الرصاص القاتل إلا الدليل القاطع على خسّتهم وخوفهم وجبنهم وبالتالي ضعفهم أمام ذلك الابداع الفني الذي يحكي قصة شعب مهجّر، شردته الصهيونية المزروعة في أرض فلسطين، فعاش في الشتات وفي المخيمات حياة البؤس والشقاء والفقر والمعاناة، لكن دون أن تفتر عزيمته أو تلين، وظل الصوت مدوياً، يناضل بالسلاح والكلمة والريشة المبدعة لاسترجاع ما أخذ منه بالقوة ..
ناجي العربي…خبز الفقراء اليوميِّ
لقد كان ناجي العلي – عليه رحمة الله- يعتز بعروبته، إذ تعبر إحدى لوحاته عن مكنونات نفسه، فيقول في إحداها:- ‘ لست سنياً ولا شيعياً ولا مسيحياً ولا درزياً أنا عربي يا جحش’. وقد استطاعت رسوماته أن تشعرنا بالذل والقوة، بالعودة والتشريد، وما تزال رسوماته تمثل تنهيدة المواطن العربي، عندما يتأمل حال أمته ولا يجد ما يقول، فهي ما تزال تحمل صلاحية الفكرة وضراوة الهجاء الذي نحتاجه حين يعز الكلام على الرغم من مضي أكثر من ربع قرن على جريمة اغتياله.
وقد نشر العلي أكثر من 15 ألف لوحة كاريكاتيرية طيلة حياته الفنية، عدا عن المحظورات التي مازالت حبيسة الأدراج والتي كثيراً ما كانت تسبب له تعباً حقيقياً. وقد شاركت رسوم العلي في عشرات المعارض العربية والدولية، وصدر له ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة، وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك. وقد حصلت أعمال ناجي العلي على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق في سنتي 1979م و 1980م ، وحاز كذلك على عدة جوائز كبرى في معارض دولية وعربية، كما أقيمت لرسوماته عدة معارض قبل استشهاده وبعده، وقد انتُخب أميناً عاماً لاتحاد رسامي الكاريكاتير العربي إضافة إلى كونه عضواً مؤسساً في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين وعضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن اللقاء العابر لناجي العلي في العام 1962م مع الأديب والكاتب الفلسطيني غسّان كنفاني قد غيّر مجرى حياته، فلقد أطلعه على عدد من رسومه التي لمس كنفاني فيها موهبة ناجي وحماسته فنشر له رسماً في مجلة ‘الحرية’ يمثل خيمة على شكل بركان، حيث شكلّت له تلك اللحظة النقلة الأهم في حياته وتعاطيه مع قصة الرسم والتي كان لها تأثيراتها اللاحقة والأساسية في تجربته الحياتية والإبداعية إذ أنه سافر بعد عامين من ذاك اللقاء الى الكويت ليعمل رساماً ومخرجاً وكاتباً في مجلة ‘الطليعة’ الكويتية لسان حال القوميين العرب في الكويت التي كانت آنذاك إمارة صاعدة، وقد استُقبل العلي بحفاوة في الطليعة التي أضحت مدرسته الأولى ومنبره الأسبوعي لمخاطبة قرائه، وكان ذلك بداية عمله كرسام محترف، راح ينشر رسومه بتواتر متزايد الى أن انتقل عام 1969م الى جريدة ‘السياسة’ الكويتية، وبقي فيها رسام كاريكاتير حتى عام 1974م عندما عُرض عليه العمل في جريدة ‘السفير’ اللبنانية في وقت كان الانقسام السياسي في لبنان قد بلغ مبلغه، وراحت رهانات القوى اللبنانية تفرز بحد السكين القوى السياسية والاجتماعية، وتترك ظلالها القوية على كل وسائل الإعلام.
وقد عمل العلي في صحيفة السياسة الكويتية من شهر 10 عام 1976م حتى نهاية عام 1978م وأصبح العلي يعمل رساماً لصحيفة ‘السياسة’ الكويتية إضافة الى ‘السفير’ حتى عام 1983م، وفي هذه الحقبة كانت رسومه تمس كل الأطراف، من الأعداء المعلنين: إسرائيل وأمريكا، الى قائمة دول الاستبداد العربية الى كل أعداء العرب وفلسطين، فرسم عن الديموقراطية، والبترول، والمخيمات، والفقر، والمعتقلين السياسيين، والخلافات العربية، والخلافات الفلسطينية، والتنازلات المعلنة والمضمرة، وكانت في كل ذلك نجمة الصبح لها إسم واحد: فلسطين.
وبين عامي 1983 و 1985 غادر الى الكويت وعمل في صحيفة ‘القبس′ حيث نشر فيها مجموعة من أقسى الرسوم النقدية عن القيادات الفلسطينية والتي ظلّ يهاجم فيها كل من يبتعد خطوة عن فلسطين الوطن والمعاناة والحلم، من الأنظمة العربية الى القوى الفلسطينية نفسها، الأمر الذي أجبره مجدداً على مغادرة الكويت بسبب الضغوط الفلسطينية الى لندن ليعمل في ‘القبس الدولي’ خلال ذلك بقي وفياً بصرامة نادرة لخطه السياسي النقدي الذي لا يقبل المساومة ولا المناورة.
أما في الفترة ما بين 1985 و1987 فإن خارطة فلسطين السياسية لم تعد هي نفسها خارطة الخمسينيات والستينيات، ولم تعد خريطة لبنان الحرب الأهلية هي ذاتها… تغيّر العالم، انتصر أعداء فلسطين، أُبعدت منظمة التحرير الى تونس، انتصرت الأنظمة على المجتمعات. هُزمت القوى والأفكار التي سادت جيل ناجي، غير أنه هو نفسه لم يهزم، بقي يقاوم متمترساً خلف النقاء السياسي السابق نفسه. وهذا وسّع خارطة خصومه، فالأعداء بالنسبة له هم أيضاً أولئك الذين يعيدون الحسابات أو يميلون الى المساومات من أهل البيت الفلسطيني .. هكذا وجد نفسه في السنوات العشر الأخيرة من حياته يتناول بالنقد المفرطين وأصحاب الكروش والموسومين بأرقام القرارات الدولية (242-238) حول فلسطين وتقاسمها.
وقد جاء اغتيال ناجي العلي كما قالت صحيفة ‘السفير اللبنانية’ في خبر رثائه هو اغتيال لشاهد ولصوت صادق، فقد كان ناجي ينقل رسالة المحرومين من المنابر العامة…ولن نستطيع أن نجمل كل الكلام عن ناجي العلي(الحنظلي) من خلال هذا القسط اليسير من العبارات والكلام، حتى لو استهلكنا كل المعاني والحروف..سيبقى ناجي فوق شواهد هذا الحديث..وسيبقى فينا بعضُ هذا النبضِ العربي المسلم، لأنه بحق واحدٌ من رموز النضال العربي الحديث ورمزاً لكلِّ ما تختلج به صدور الناس في هذا الوطن على امتداده واتساع رقعته.
وفي يوم 8/ 2/ 1988 وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي، بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة ‘ قلم الحرية الذهبي’ وسلمت الجائزة في إيطاليا إلى زوجته وابنه خالد، وكان ناجي العلي هو أول صحافي ورسام عربي ينال هذه الجائزة . وقد اختارته صحيفة ‘اساهي’ اليابانية واحداً من بين أشهر عشرة رسامي كاريكاتير في العالم. وبعد وفاته، أقيم مركز ثقافي في بيروت أطلق عليه اسم ‘مركز ناجي العلي الثقافي’ تخليداً لذكراه، كما حملت اسم الفنان مسابقة الرسم الكاريكاتوري التي أجرتها جريدة ‘ السفير’ .
ناجي العلي…لماذا الآنْ.
يقول ناجي العلي:- لو بقيت على قيد الحياة فسوف أفضح هذا الواقع العربي…على الحيطان. وكان يقول أيضاً …’رسمت بالحس الطبقي الذي يلفت النظر لهذه القوى المسحوقة التي يجدر بها الحياة، وهي عملية لفت نظر لأصحاب القضية الحقيقية في الثورة كي يتوجهوا وينتبهوا لهذا الواقع′.
تُرى لو بقي صاحب حنظلة إلى يومنا هذا بجسده، أكان يمكن أن يقول أكثر مما قاله عِبر الصورة والحركة والخط، التي هي عنده عناصر الكادحين والمقهورين والمطحونين…أكان يمكن أن يزيد من حجم مساحات أوراقه لتتَّسع لكل هذه الفوضى والضوضاء والاضطراب..؟!
باعتقادي أنه لن يرضى بتحمل عبء الوصف والكشف الزائد والمكرر لأنه استطاع أن يُجمل كل ذلك بذاك الفتى العشري الذي ظل يحمل عمر الطفولة، بعيداً عن قوانين الطبيعة المعروفة، لأنه استثناء. ويكفينا أن نقول عنه ما قاله ‘ العلي’ :- ‘ …حنظلة: هذا المخلوق الذي أبدعته لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أُبالغ إذا قلتُ: إنني قد أستمرُّ به بعد موتي’.
وفعلاً كان أن استمر ناجي العلي بــِ’ حنظلة ‘ في رسم صورة هذا الوطن الكبير رسماً للحالات والوقائع. وهذه هي الإجابة على سؤال ‘…لماذا الآن ‘… فمع استمرار حالات النزف العربي ومع استمرار زيادة ثقل الهمِّ والغمِّ واتساع جراحنا…مع هذا وذاك نبقى بحاجة إلى ناجي العلي الشهيد والشاهد، هذا المراقب الكبير للعالم العربي، على حَدِّ تعبير صحيفة النهار المستقلَّة.
لقد استطاع ‘العلي’ أن يحفر اسمه في ذاكرة الأجيال وكل الأجيال العربية المتلاحقة..وهو لم يزل قائماً بيننا وسيبقى في ذاكرتنا العربية وضمن صفحات النصوع والإشراق لتاريخنا الطويل. وكلمتنا التي ينبغي علينا أن نقولها هنا أن ناجي العلي سيبقى صالحاً في كل وقت، حتى بعد أن يتغير الواقع إلى الأفضل، سيبقى يذكِّرنا بأنه كان لنا ماضٍ قريب حمل كل معاني السخف والابتذال.
رموز ناجي ..حنظلة والشخصيات الأخرى
على الرغم من مرور ربع قرن على غيابه إلا أن ناجي العلي لم يزل ‘خبز الفقراء’ اليومي،ورموزه لم تزل تعبر عن واقع الأمة، بكل حالات فرحها وحزنها، ففاطمة رمز للمرأة الفلسطينية، وهي شخصية لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، وردها يكون قاطعاً وغاضباً بعكس شخصية زوجها (الزلمة) الكادح والمناضل النحيل ذي الشارب، كبير القدمين واليدين مما يوحي بخشونة عمله، والذي هو رمز للقهر الدائم، وهو الضحية لصراع الذئاب والمهاترات الموزَّعة عبر مساحة الجراح، والذي ينكسر أحياناً في العديد من الكاريكاتيرات، ووجهه المهموم ما هو إلا صورة الواقع المتصدع المتردّي، كمثال الكاريكاتير الذي يقول فيه زوجها باكياً:- سامحني يا رب، بدي أبيع حالي لأي نظام عشان أطعمي ولادي،فترد فاطمة:- الله لا يسامحك على هالعملة..أو مثلا الكاريكاتير الذي تحمل فيه فاطمة مقصاً وتقوم بتخييط ملابس لأولادها، في حين تقول لزوجها:- شفت يافطة مكتوب عليها ‘عاشت الطبقة العاملة’ بأول الشارع،روح جيبها بدي أخيط كلاسين للولاد، ومقابل هاتيك الشخصيتين تقف شخصيتان أخرييان، الأولى شخصية السمين ذو المؤخرة العارية والذي لا أقدام له (سوى مؤخرته) ممثلاً به القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الإنتهازيين. وشخصية الجندي الإسرائيلي، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكاً أمام حجارة الأطفال، وخبيثاً وشريراً أمام القيادات الانتهازية…أما ‘الخنازير البشرية’ فهي توحي بصورة القبح لكل المحايدين وهم الذين أسهموا بسكوتهم وخنوعهم بازدياد قتامة الموقف.
وأبجديات العلي الكاريكاتيرية ثرية ومنها: العلم والقلم والأرقام وبيروت التي كان يرى فيها العلي خط الدفاع الأول عن فلسطين، أما الكوفية وهي الرمز الفلسطيني فإن العلي استخدمها في نقيضين، فقد كانت أحياناً الستار الذي تستخدمه ‘الشخصيات السمينة’ لتمرير أعمالها المشبوهة، وأحياناً أخرى تستخدمها شخصيات العلي الخيرة وهي حنظلة وفاطمة وزينب والزلمة، وعندما تستخدمها هذه الشخصيات فإن الكوفية تغدو عنوان فلسطين، ورمزاً للعمل المسلح.
أما حنظلة فلم يكن مجرد طفلٍ شرد من وطنه فحسب، لكنه وضمن اللوحة الكاريكاتيرية كان عنصراً فنياً أراد منه ناجي أن يحافظ على حلم العودة وان يكون شوكة تنخز الضمير ويتعدى ذلك أحياناً ليكون مشاركاً وفاعلاً في المهمة النضالية…وهكذا، كان حنظلة الأيقونة التي حفظت روح ناجي من السقوط كلما شعر بشيء من التكاسل، أو أنه يكاد يغفو أو يهمل واجبه، وهو كنقطة الماء على جبينه، تدفعه إلى الحرص وتحرسه من الخطأ والضياع، إنه كالبوصلة التي تشير دائماً إلى فلسطين، وليس فلسطين بالمعنى الجغرافي ولكن بالمعنى الانساني والرمزي، أي الفضية العادلة أينما كانت.
ويقول ناجي إن حنظلة هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحه من الانزلاق، وهو نقطة العرق التي تلسع جبينه اذا ما جبن أو تراجع، وهو شخصية ابتدعها ناجي تمثل صبياً في العاشرة من عمره، ظهر رسم حنظلة أول مرة في الكويت عام 1969م في صحيفة السياسة الكويتية، حيث قدمه ناجي بعبارات صادقة أعلن فيها التمرد والصدق. وفي سنوات ما بعد 1973م أدار ناجي ظهر حنظلة للعالم وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. وقد لقي هذا الرسم وصاحبه حب الجماهير العربية كلها وخاصة الفلسطينية لأن حنظلة هو رمز للفلسطيني المعذب والقوي رغم كل الصعاب التي تواجهه فهو دائر ظهره للعدو. وعن حنطلة يقول ناجي: ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء.
وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائرٌ وليس مطبعا. وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الانسان العربي شعوره بحريته وانسانيته.
وحنظلة…ليس فقط مجرد رمز من رموز ناجي العلي…وإنما هو بالتأكيد الوجه الآخر له…وهو الشاهد الذي لم يتلوث بقاذورات المرحلة وامراضها، وهو ليس مجرد توقيع فحسب، وإنما هو تلك المنطقة الصافية البريئة من وعي ناجي (الفنان)، وهو تجسيد لوعيه المتناقض الذي ينظر إلى العالم فيراه غريباً على منطقة الصفاء والحلم. يقول ناجي:- ‘حنظلة يا صديقي، هو البراءة في عالم غير بريء، هو اختزال للطفولة المدهوشة من هذا العالم التي يقشعرُّ رأسها لهول ما ترى وتسمع وتحس وتواجه’.
وقد تحول حنظلة بفعل من التوجه القومي لناجي العلي من رمز فلسطيني إلى رمز عربي، يشير بقسوة إلى واقع الأمة المهلهل في ذلك الحين، ولم يتكئ العلي على نجاح الفكرة (الرمز) متجاهلاً التفاصيل الفنية في لوحاته، فكانت أعماله لوحات مستوفية للشروط الفنية للوحة، ويبدو ذلك جلياً لمن يتمعن في خطوط اللوحة وتفاصيلها.
ولابد من الإشارة في هذا السياق الى أن شخصية حنظلة، ابن المخيم ذي السنوات العشر، ظلت تزين زوايا رسومه على مدى أكثر من عشرين عاماً، دائراً ظهره للقارئ، وكأنه يطالع الأحداث ويعلن احتجاجه عليها، لكنه في لحظات نادرة كان يتحول الى شخص فاعل، يعلق على الأحداث أو يتناول حجراً أو يرميه..الخ. وربما يعود إصرار ناجي عليه الى كونه يمثله شخصياً، يمثله في طفولته لحظة اقتلاعه من وطنه عندما كان في مثل عمر حنظلة.
ولم يكن حنظلة لدى ناجي توقيعاً أو تعليقاً إضافياً على الرسم أو على التعليق الأساسي،كان بالأصح احتجاجاً، لحظة نقاء سياسي في بحر الأحداث والمساومات المستمرة، كأنه بإدارة ظهره يشارك القارئ موقعه في النظر الى الرسم ذاته، وهذه لحظة تماه أخرى بين رسم ناجي وقارئه، وهذا في جانب يفسر الاهتمام الذي ناله حنظلة من القارئ أو من الذين كتبوا عنه.
لقد استخدم ناجي العلي رموزاً أصبحت لصيقة بفنه وتجربته الإبداعية مثل (حنظلة) الذي لم تعد صورته تفارق أية لوحة من لوحاته ورسومه منذ أن رأى النور، فهو الصبي البائس الصغير الذي عقد يديه خلف ظهره ووقف يراقب الأحداث مستشرفا آفاق المستقبل.
ولقد كانت الرموز لدى ناجي ثابتة والعالم منشقا كوعيه ذاته، وبسبب هذا الانشقاق تحول حنظلة الشاهد إلى عين بريئة صافية تشهد على هذا الخراب والضياع. وهو الطفل الهائم المشرد اللاجىء والذي سوف يبقى وجهه مختفياً ما بقي هذا الواقع المؤلم، وما بقيت هذه السخرية المملوءة بالرفضِ والإحتجاج، وسيبقى يشيح بوجهه عنّا إلى أن نكتشف أنفسنا ونكتشف مقدار سخفنا وسذاجة مواقفنا تجاه الأرض والإنسان ولن يرينا وجهه ما بقي هذا الظلام يلفُّنا ويخيِّم على كل تفاصيل حياتنا، وهو أيقونة من أيقونات ناجي كما صرح بهذا هو في يومٍ مضى.
كلمة السِّر …هي الوطن
لقد كان ناجي العلي معبأ بكل الحماس والعنفوان للتضحية للوطن لأن الكبرياء التي حملها في نفسه، والشموخ الذي تزنَّر به هو من جرّاء حالة الصدق وهالته التي كان يتعامل بها مع الوطن..لم يطلب شيئاً ولم يسع لأمر غير الوطن وسلامة الوطن، وحفظه من كل الأمور التي يمكن أن تكون شوائب في صفو مائه، وقد أراد ناجي العربي أن يكون..فكان، بعد أن فضح كلَّ كواتم الصوت وترجم هذا من خلال ريشته، أما الذين اغتالوه فلم يستطيعوا إلا أن يكونوا كالخفافيش.
وقد كان مفتاح شخصية ناجي العلي هو إيمانه أن فلسطين هي كل فلسطين، فقد آمن ناجي بأن فلسطين كلها له ولا يوجد فيها شبر واحد للبيع أو للتنازل أو للإيجار، كلها أرض واحدة أسمها فلسطين، كان اسمها فلسطين، صار اسمها فلسطين، وسيظل اسمها فلسطين، ودون أن تكون ملكية الأرض لأحد، الأرض لشعبها وليس لأفراد، والتصرف بالأرض ليس حقاً فردياً، فبالتالي تحويل فلسطين إلى مكتب عقارات لبيع أراض أو لتبادل أراض ضد العقيدة الموجودة داخل ناجي، وهذا ما جعل مجموع أعدائه أكثر من أصدقائه حتى لو كان أصدقاؤه كل الشعب الفلسطيني.
وبالعودة الى أعمال ناجي، نرى بوضوح أنه مسّ الكثيرين في رسومه من الدول الى الأحزاب، الى الهيئات السياسية، الى العديد من الشخصيات السياسية، فهذا الرسام لم يكن في دفاعه عن قضيته يحسب أي حساب لأي جهة، ولأي قوة، ولم يكن يرى التكتيكات والمناورات السياسية إلا تنازلات وتفريطاً، فهو ظل يحلم بالقضية في نصاعتها كما كانت عام 1948م، وفي نقاء الحق الفلسطيني الذي لا ينازع.
وعليه، فقد فتحت رسوم ناجي نارها على الأنظمة الديكتاتورية، على رجال المخابرات، على القيادات المستسلمة، على الطوائف، على الطائفية، على تضليل الإعلام، على تهاون المثقفين، على القمع في كل بلدانه، وأيضاً على الوضع الفلسطيني الداخلي، على التحزب الضيق، على الصراعات الفلسطينية، على نزعة الهيمنة على القرار، على الميل للمساومة، على القابلين بالقرارات الخاصة بفلسطين، على المفرطين والباحثين عن أي مقعد في قطار التسوية ..الخ، وهو في كل ذلك لم يجلب لنفسه إلا أعداءً فوق أعداء.
ولم يكن ناجي أبداً محمياً من أحد، وكان الكل ساخطاً عليه، حتى أولئك الذين انتمى إليهم لفترة من الزمن لم يسلموا من انتقاداته حينما بدأوا بتغيير برامجهم، فقد هاجم جورج حبش ونايف حواتمة وياسر عرفات وكل من كان لديه ميل بسيط لتغيير برنامجه، إذ انتقد الجبهة الشعبية حين رسم عيادة وكتب فوقها ‘عيادة الجبهة الشعبية للأمراض التنازلية’ وكتب أسفلها ‘اسأل مجرب ولا تسأل ‘حكيم’ ‘ وكان ذلك هجوم مباشر على جورج حبش، وعندما اتصل به حبش معاتباً قال له ‘هلكتنا يا ناجي’ أجابه ناجي ‘انت اللي عملت بحالك هيك’.
هكذا راح في الأعوام الأخيرة من السبعينيات وبشكل خاص بعد الخروج من بيروت الى تونس وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على تقديم التنازل تلو التنازل، والاعتراف بالقرارات العربية والدولية تلو الاعتراف، لم ير في ذلك مساراً إجبارياً فرضته ظروف الهزيمة العربية والفلسطينية، بعد اجتياح بيروت، بل رآة تفريطاً، سببه طبيعة توجهات القيادة ومصالحها وتحالفاتها، وعليه فقد صبّ ناجي غضب رسومه في تلك الفترة على القيادات الفلسطينية، فقد رسم وقتذاك القادة الفلسطينيين مكرشين، تحولت الكوفية لديهم الى قبعة أمريكية أو ربطات عنق أنيقة، مترهّلة مؤخراتهم الى الأرض دون أطراف سفلى، مطبوع على جسومهم أرقام القرارات الدولية المعترفة بالعدو ‘وحقه’ في أرض فلسطين، أصبحت كل سياسات وتصريحات وإجراءات القيادة الفلسطينية تحت مجهر ناجي الكاريكاتيري في إدانة لا تقبل التأويل.
في هذا الوضع، وبعد أن أضحت رسومه مليئة بكشف تنازلات القادة الفلسطينيين، الذين أصبحوا موضوع رسومه الأساسي ومحط استنفار موهبته، راحت أكثر من جهة توصل الرسائل إليه بأن يخفف من نقده، فلم يستجب بالطبع…عندها ازدادت الضغوط المباشرة، مما أجبر صحيفته على الطلب منه أن يغادر الكويت الى لندن، وهناك استمرت رسومه تتسم بنقدها الحاد. الى أن جاءته رصاصة لندن في رأسه صبيحة 22 تموز 1987م وليبقى في الغيبوبة لمدة 38 يوماً الى أن فارق الحياة في 29 آب من العام ذاته، وكأن جسده بدوره كان يقاوم بعد أن قاومت ريشته ربع قرن.
عناصر اللوحة عند ناجي العلي
لقد بشَّرت أعمال ناجي العلي بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي ولدت بعد اغتياله بخمسة أشهر تقريباً، ففي الكثير من رسوماته يحتل الأطفال دور الجنود، فيما الحجر هو السلاح المقدس الرخيص الثمن، المتوفر في كل لحظة، والقادر على دكّ حصون المحتل، هذه النقلة في فن العلي من الرصد إلى التبشير بدأت في العام 1975م أي قبل الانتفاضة بأكثر من عقد، ولعل سبب هذا التحول كان قوة الدفع التي اكتسبها الحل السياسي/ السياحي (كما كان يسميه العلي) في الوسط الفلسطيني الرسمي، وذلك على حساب الحل العسكري، وهو ما تمثل في برنامج النقاط العشر، وخطاب عرفات في الأمم المتحدة (1974م)، وإصرار العلي على البحث عن مخرج من شبكة الأنفاق الطويلة التي تاه في وسطها الفلسطينيون.
وتتعدد عناصر اللوحة عند ناجي، فتراه مرة يتضامن مع الباحثين عن لقمة الخبز مقطوعي الأيدي في السودان، وأخرى فلاحاً مصرياً يحمل مشنقة لأعداء الشعب من القطن طويل التيلة، أما في المخيم الفلسطيني فيذهب إلى أبعد من الحدود ليعلن تضامنه مع الصحفي المصري صلاح عيسى في إضرابه عن الطعام حتى الموت، حيث منع من العمل بالصحافة المصرية بسبب آرائه السياسية المعارضة.
ولم تكن رسوم العلي ساخرة، بل كانت على العكس حزينة، كانت رسوماً تتحدث عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن رسومه حزينة فلقد كانت جادة، تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية. هكذا تجاوبت رسوم ناجي مع تلك الحاجة الداخلية العميقة لإنسان المنطقة مع التعبير الحزين عن حياته المضنية المحاكة بالسواد. مستنداً إلى لجوهر الرافض، الثائر والمتمرد والواعي في الوقت ذاته لقضية شعبه وأمته.
وقد تمثل نضج العلي الفني في انتقاله من الرسم التخطيطي إلى الرسم التشكيلي، وإن ظل مصراً على استخدام اللونين الأبيض والأسود فقط في لوحاته، ولعل هذا يرجع إلى طبيعته التي لا ترى العالم إلا من خلال التناقضات الكلية بين خير وشر، وجمال وقبح، وتضحية وخيانة، لذا حين تأزمت الأوضاع السياسية العربية بات اللون الأسود خلفية شبه دائمة في لوحاته، كما تخلّى العلي في نهاية مرحلة السفير الثانية عن الأنساق اللغوية، واستخدم الأنساق الكاريكاتيرية التي امتازت بالبساطة وقلة الخطوط، مما يعكس عبقريته. وقد أسس العلي مذهباً خاصاً به للجمال، فالجمال لديه لا يعني الزخارف ولا الزينة ولا حسن الملامح وبهاءها، فشخصية الزلمة الجميل مثلاً في لوحات العلي كانت من أكثر ملامح الناس قبحاً، ولكنها كانت في الوقت ذاته من أجمل المخلوقات؛ لحرصها على العمل وطيبتها وبراءتها وإخلاصها لمبادئها. كذلك كانت شخصية حنظلة/ القنفذ.
فالجمال في مذهب العلي يعني: البراءة، الشجاعة، البساطة، الشفافية، القوة في الفعل الإنساني. وفي الخطوط كان الجمال يعني المثير للدهشة، المحفِّز على فعل ما، الباسط للحقيقة، الخالع للأقنعة، المدافع عن الحق، الداعي إلى الحياة، الباحث عن الخير، وتلك هي الصورة التي كانت عليها فاطمة العلي الجميلة كذلك.
ويرى بعض النقاد والدارسين للتجربة الفنية لناجي العلي أن هناك علاقة وثيقة بين تجربته الفنية وتجربة الفنان الفرنسي ‘هونريه دومبير’ في رسم الشخوص.. فكلاهما يسخر من المتحذلقين بجعل أجسامهم سمينة منتفخة رذيلة. وأما الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري فيرى: أن ناجي العلي كان يستلهم تلك الجنائزية التي حفلت بها الفنون القديمة ممتزجة بذلك النزوع التعبيري الجماعي الذي تميز به الفن الاسلامي بحيث يكون له أن يزاوج ما بين التخطيط الواقعي لبعض أشكال رسومه وبين تخطيط تحريفي وتشويهي لأشكال تقابلها في المرمى المضاد لها.
إن شخوص ناجي العلي كلها فيها اختزال لدلالات ذهنية رسمها بطريقة رمزية تعرف إليها هذا الفنان بوعيه الشخصي، وأغلب أقدام هذه الشخوص حافية، وكأنه يأخذ بقول الشاعر الانجليزي ويليام وردزورث: أن الطفل هو والد الرجل، أو كأنه المسيح حافياً، إنه حنظلة، هذا الطفل الحارس الأمين. يراقب كل ما يجري حوله وأمامه، بكثير من الصبر والألم.
وناجي، رائد حقيقي لنهج كاريكاتيري متميز بتعبيريته التي تمازج بين كثافة عتمة واقعه من ناحية وبين الاضاءات الخفية في الإصرار على مقاومة ذلك الواقع من ناحية ثانية، فهو بقدر ما يؤكد على مشاعر الخيبة عبر شخوصه النمطية وعلى الأخص حنظلة، المتمثلة فيه هموم الأمة المغلوبة على أمرها والملجومة، يؤكد على إصرارها في المقاومة، ويعزز من قدرتها على مراقبة كل شيء وقدرتها على الصبر الطويل، ورفضها لكل انواع الاستسلام.
آخر الحديث…لم يزل قائماً في الذاكرة
لقد كانت حياة ناجي العلي سلسلة متصلة من التحدي، منذ فتح عينيه على نكبة أبناء شعبه عام 1948م، ولما يتجاوز العاشرة من عمره، وهم يتركون بيوتهم وأحلامهم ويلجأون إلى الدول العربية المجاورة، فلجأ مع عائلته إلى لبنان، وتحدى الفقر والجوع، لتأمين لقمة العيش. وبالرغم من هذه المعاناة فإن إيمانه كان يتجدد دوماً بحتمية الانتصار مهما طال الزمن ومهما بلغت التضحيات.
وقد كان الشهيد ناجي العلي يرى نفسه جندياً متواضعاً حاول أن يدلي بدلوه في معركة المصير حتى لحظة استشهاده، ومهما قلنا اليوم عن ناجي فإننا لن نستطيع أن نفيه حقه، سواء في عمله الفني أو الوطني، فهو رمز من رموز النضال العربي الحديث، وهو رمز لكل ما تختلج به صدور الناس في هذا الوطن على امتداد رقعته واتساعها.
ومما لا شك فيه أن ناجي العلي استطاع ان يحفر اسمه في ذاكرة الأجيال العربية المتلاحقة، ولم يزل قائماً في الذاكرة العربية، وما زال جرحه مفتوحاً بدوره في صدر محبيه وعشاق فنه ومتابعي رؤيته، وما زالت الأسئلة مفتوحة،..فناجي مازال حياً.. ومازالت رسومه تمثل إبداعاً حقيقياً يحرض على الثورة لنيل الحرية التي ستتحقق بالمقاومة والنضال .. أما المجرم الغادر الذي أراد أن يُسكت صوت ناجي المقاوم بلغة الرصاص، ويشلَّ يده المبدعة التي كانت شاهداً على العدوان والجريمة فقد أخفق في تحقيق حلمه!