ومع الأغاني المشتركة بيننا وعلى عبق دخان الحشيش الذي يتنفسه تقريبًا بدل الهواء، لمعت عيناه الناعسة الواهنة من طول التأمل، احتضنني بعينيه، استنشق بروحه بعضًا من روحي، تماهينا حتى شعرت أننا توحدنا في جسد واحد، كان حنونًا بدرجة تكفيني، وكانت ليلة كالحلم الطيفي الذي يراودك مع أول ظهور لشروق الشمس وأنت نائم، ليلة الحب الحقيقية التي عشتها، فهؤلاء الآخرون الذين أخذوا بعضًا من روحي لم يرضوا لي أن أعيش بكل روحي وأن يتقاسمها معي حبيب واحد، لم يطِب لهم أن يروا بريق جسدي يتألق بينهم وهم موتى، كرهوا أن يستمتع أحدنا بالآخر، يريدون لي البقاء وحيدة بلهاء أشاطرهم بعضًأ من روحي. فكان لي من تحذيراتهم الكثير، خفت منه، هربت وجريت ولم أرغب في لقائه مرة أخرى، وأدوا معه نفس المهمة، ورسموا له تلك الصورة الشهيرة لفتاة تحتضن رجلاً في أول مرة تراه، من ستكون سوى “عاهرة”، ورغم علمي بتلك المجهودات التي يقدمها الوسطاء، وتأكدي من عقلية المستثقفين الجدد الذين يرددون شعارات عن الحرية الجنسية والعقائدية، عرفت أن علاقة حقيقية مع أحدهم تكفي لتأكيد كيف يفكر رجال يبدو عليهم وعلى كتاباتهم الجريئة وشعاراتهم البراقة الحرية، إلا أنهم يجرمون أي إنسان آخر لا يتفق مع أفكارهم ومعتقداتهم، ورغم علمي بذلك فإن الخوف كان أقوى. وتجاهلت اتصالاته المتكررة بي، واجتهدت في إبعاد صورة الحلم من مخيلتي، وحاولت استعادته بعدما تأكدت من الموت المحقق لكل الأرواح الفانية التي عذبتها بعد ذلك، وبدوره لم يحاول أن يرى سوى صورة لتلك البنت التي رافقته ليلة واحدة، سحبت فيها بعضًا من روحه ورحلت دون أن تخبره عن الاختفاء بعدما توحدا.
نعم، أنا تلك البنت التي تركته وكلي اشتياق إلى تكرار الفعلة بيني وبينه، ورغم أنه لم يخلع عنه ملابسه، ولم يحاول أن يحرجني بسيطرة شبقي عليه، ولم يقُم بتعريتي بالشكل المناسب للحالة، ربما كان الحضن الحنون الذي ضمني لحظة القذف هو الذي أرعبني، فحضن كهذا بالتأكيد له حبيبات كثيرات، تركته وأنا على علم بأنني سأترك جرحًا زمنيًّا في عقله الرافض لاعتراف سيخنقه، بأنني حبيبته الوحيدة، ويكفي أنني لم أسعَ إلى مضايقته بأي وسيلة بعد ذلك، عدت بشقاوة المراهقات الخجولات اللاتي خرجن لتوهن من خلف حجاب، أسير في شوارع البلد، أتلمس طريقًا جديدًا، بحثًا عن آفاق أكثر رحابة وانطلاقًا لعقلي الذي أرهقه التفكير والتأمل، تتعثر قدمي الصغيرة ببقايا جثث لم يصِبها العفن بعد، تغوص قدمي في لحمهم الطري الذي لم يتيبس بفعل الرطوبة، لم أكن أعرف وقتها أن تلك البقايا ستتجدد خلاياها كما في أفلام الرعب الأمريكاني، انتظرت تلك البقايا طويلاً لتعبر أي روح عليهم كي يتلبسوها أو تتلبسهم، لم أنزعج بقيامتهم الأولى، لم أندهش، كنت سعيدة جدًّا لأنني سببًا في ارتداد أرواحهم إلى أجسادهم، صدقت أن لهم حياة، ولأني ساذجة فرحت باحتفائهم بي، تهللت بأنهم وضعوا تاجًا مرصعًا بآلهة الحب الصغيرة على رأسي، أخذوا بعضًا من روحي وتناوبوا التحرك بها، كانوا سعداء وأنا سعيدة لسعادتهم، حتى انتهيت لليلة رائعة قبل أن يتملكني إحساس بالدوار جراء فَقْد بعض روح.
-2-
لا زلنا في حالة عراك وعناق، تتقن اقتحامي دائمًا مهما كانت ظروف ابتعادك، ولا تراعي حاجتي إلى رجل آخر يهتم لجسدي وتحولاته، تتظاهر دائمًا بمحبتك التي أرهقتني، تعرف كل خبايا روحي يا ملعون، فلا أنت تدعني أحاول أن أطيب جرحًا غائرًا بقسوة ولا أنت تدع غيرك ينزع من شرايني تجلط الدم الساري فيه عشقك يا ملعون.
حلفت ذات يوم بأنك لن تتركني، إلا كالمجاذيب الهائمين مع أشباح الموتى، وأن جنوني أهون عليك من أن تتركني يومًا، لكن عذرًا، ها أنت تركتني، ولم تصِبني لعنتك، وأصبح بديل الجنون هو عقل يخيفني ويخيف من يصدق أنك لم تتركني، أصبح الحب رفاهية إذا ما داهمني همك، تصير رغبتي مطموسة في طين الألم، أبحث عن طريق إلى طاقة تتصل بأعصابي، لعنة تصيبني في مقتل إذا ما قررت أن أحل عقدة الزمن، صرت أرقد دائمًا على رفات المنسحقين الذين ذهبوا بإرادتهم إلى الانزواء متخفين في الأكفان، لا تحترس ولا تخَف ولا تحاول أن تنبش في أسباب رحيلهم، هم فقط اختاروا الانزواء، فلماذا لا تختار أنت شيئًا جديدًا؟
أما أنا فما زلت في معركة الأرجوحة المعلقة بين الأهلة والصلبان، معلقة لحين اكتشاف الحقيقة، هل لي دور حقيقي في الحياة، أم سأظل بانتظار وحي لا يأتي من عالم آخر لا يشعر بي؟
تطاردني دائمًا اختلاجات القلب على حالة عشق، وأتذكر تلك الحالة الجميلة، عندما تقفز فجأة إلى عقلي كل أغاني العشق، وأنسى كل التفاصيل المرهِقة، فأسقِط من حساباتي عذابات المآسي الكبرى، فأضطر إلى كتابتها ضمن قصتي، فأكتب (المآسي الكبرى) كي أريح ضميري، ووقتما ترتسم على وجهي ابتسامة دائمة، وتلمع وجنتي وترفض الانصياع إلى رغباتي المؤذية لي، تمهلوا، فما زال هناك الكثير من سمات الحب لم أخبركم بها بعد، لكنني -عذرًا- سأغلق الباب وأعود بعد وقت، لا تسألونني لماذا سأغلقه، فقط انظروا إلى ابتسامتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية: عتق عبيد الذاكرة – تصدر قريبا عن الدار بالقاهرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سهى زكى
روائية – مصر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة