د. نعيمة عبد الجواد
النجاح والوصول إلى أعلى المراتب هو أمل كل فرد؛ فالتميُّز هو رغبة مُلِحِّة قد تستفحل إلى مرتبة الهاجس، حتى ولو حاول صاحبها إنكارها. ولتحقيق الأهداف يجب التزوُّد بسلاحين لهما القدرة على تذليل الصِّعاب؛ ألا وهما: القوة والمعرفة.
وقد يبدو أن التوكيد على القوة والمعرفة دعوة لاعتناق القوَّة الغاشمة أو النهل من بحور المعرفة إلى حد الامتلاء الذي قد يفضي بالإنسان إلى عدم الرغبة في نهل المزيد أو الزهد فيما يملك، إلا أن في حقيقة الأمر أن القوة والمعرفة لهما أصول وقواعد بعيدًا عن المعنى المتواتر.
وأوَّل من فسَّر وجوب التسلُّح بالقوة والمعرفة هو الفيلسوف والمفكِّر والباحث الاجتماعي والناقد الأدبي الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault (1926-1984) الذي كانت نظرياته عن السُّلطة والقوَّة محل اعتبار. وبملاحظته للتقدم الحضاري والتقدُّم التكنولوجي، وجد أنهما فد ألقيا بظلال سلبية أكثر منها إيجابية على الإنسان نفسه؛ لأنهما قاما بتغييره بشكل جذري، لدرجة أن الجيل الحالي لا يشابه بضعة أجيال سبقته، وينطبق هذا على الأجيال السالفة والقادمة. وفي غمار محاولة فوكو Foucault لوجود إجابة عن تساؤله الملح “من نحن؟” اكتشف وجود عاملين رئيسيين مترابطين يؤثران على أفكار البشر وتصرفاتهم، وهما القوة والمعرفة؛ وذلك لتأثُّره بمفاهيم وفلسفة الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900).
ويؤكد ميشيل فوكو أن المعرفة البشرية والقوة هما كيانين ضاربين في أعماق التَّاريخ البشري وكلاهما يفرض وجوده على الإنسان، الذي هو حسب رأيه “ليس سوى اختراع حديث؛ شخصية لم يبلغ عمرها قرنين بعد. مجرَّد فصل جديد في معرفتنا. وبالتأكيد سيختفي مرَّة أخرى بمجرَّد أن تتخذ المعرفة شكلًا جديدًا.” والقصد من هذا الكلام أن البشرية تتغيَّر بشكل جذري بتعاقب العصور والأزمنة، وخاصة في العقود الأخيرة، ولا يهم إن كان التأثير سلبي أو إيجابي، فذلك هو محور النقاش والبحث في ثنايا التاريخ وتقصِّي أصول الأشياء. قلم تعد أفكارنا وتصرفاتنا تشبه السَالفين، ولن تشبه اللَّاحقين. فعلى سبيل المثال، ما حدث بعد الفتوحات الإسلامية والتي فتحت مجالات جديدة للسلطة والثروة وقبل أي شيء الاحتكاك الثقافي غيَّرت المجتمع جذريًا، وهذا التغيير نابع من التحديث الذي أصاب الإنسان نفسه. وينطبق هذا الحال ليس فقط على المجتمع العربي، بل على جميع المجتمعات في العالم بأكمله. فمثلًا ظهر إنسان جديد في الغرب بعد القرون الوسطى، وفي أفريقيا السوداء بعد الحقب الاستعمارية، وهلم جرا. وفي كل مرَّة يتكوَّن فيها إنسان جديد، وجب تناوله بالبحث والدراسة. أضف إلى ذلك، فإن المعايير الأخلاقية نفسها لا تشبه تلك السائدة فيما مضى. فالعيش في واقع مختلف يستلزم إيجاد حلولًا جديدة له للمحافظة على منظومة قيم المجتمع بدلًا من تهديد تلك التي بُنيت عليها مجتمعاتنا في الماضي. ومن هنا ظهر تأثير السُلطة التي غيَّرت الإنسان نفسه وحولته لكيان، بدلًا من شخص. ولقد صارت القوَّة حيوية بتغييرها لأشكال الثواب والعقاب سواء في التعليم، أو الإعلام، أو التأريخ، أو حتى معاقبة الخارجين على القانون. وكل ذلك استلزم استحداث دراسات لمعرفة تغيُّر سلوك الفرد تحت تأثير هذه السُّلطة التي هي “قوَّة” في أصلها، لكنها حسب ما أطلق عليها فوكو هي “قوَّة حيوية” Biopower لأن تأثيرها ينصب على البشرية، لدرجة أنها حولته من “شخص” إلى “كائن حي” يمكن التعرُّف على أنماطه السلوكية بشكل كمِّي؛ من خلال تراكم المعلومات عنه. أما “المعرفة”، فليس المقصود بها العلوم، بل التزوُّد بالقدرة على التعامل مع شرائح المجتمع المختلفة، ومخاطبتهم بالأسلوب الذي يفهمونه حتى يمكن النفاذ لفكرهم وممارسة نوع من السلطة الحيوية عليهم.
وبدراسة سلوك السالفين، نجد أن شاعر العصر العباسي الأوَّل والثاني “أبو عبادة البحتري” (204- 280 هـ) واحدًا من النماذج التي امتلكت القوَّة الحيوية والمعرفة التي مكَّنته من الانتقال من العيش في بؤس وفقر مدقع، إلى مجاورة الخلفاء العبَّاسيين المتعاقبين دون غضاضة، بالرغم من نقائصه الشخصية. ولقد ولد في بادية “منبج” إلى الشمال الشرقي من حلب في سوريا، وظهرت موهبته الشعرية منذ طفولته. فاستعان بموهبته الشعرية وجعل منها المجال المعرفي الذي من خلاله يمكن الوصول للقوَّة الحيوية. وبسبب فقره المدقع، كان يمرّ في الأسواق ويمدح التُّجَّار، فيعطونه. ولمَّا اشتدَّ عوده، انتقل إلى حمص لعرض شعره على أكبر شعراء هذا العصر، وهو “أبو تمَّام” وسأله النصيحة والتوجيه، حتَّى تتلمذ على يديه. وبسبب معرفته بطبائع البشر، علم كيف أن ينفذ بشعره إلى نفس “أبي تمَّام”، وبعد أن شكى له حاجته وبؤسه، سأل أبو تمَّام أهل “معرَّة النعمان” – وهم من كبار الأسر الطائية – أن يوظفوا له عطاءًا سنويًا، فخصصوا له أربعة آلاف دينار في العام.
ولمَّا تقرَّب “البحتري” كتلميذ نجيب إلى أستاذه، أرشده “أبو تمَّام” إلى الطريقة التي ينفذ بها إلى البلاط، فسافر إلى العراق. وبعد موت “أبي تمَّام”، فُتح الطريق أمامه وكذلك أمام الكثيرين من الشعراء المغمورين في ظلِّه، أمَّا “البحتري”، فتوجَّه إلى بلاط الخليفة، وصارت قبلته الاتصال بالوزير “الفتح بن خاقان” وتوطيد معرفته به. وبعد أن توَّسله، وافق الوزير على تقديمه للخليفة “المتوكِّل”. وبوصوله للبلاط، بلغ من دنياه ما رغب من سعة في الرزق وتحقيق مكانة كبرى اكتسبها بكثرة أماديحه للخليفة لدرجة أنه أصبح في منزلة النديم الذي يغدق عليه الخليفة العطايا. وكرر نفس السيناريو مع الخليفة “المنتصر بن المتوكِّل” الذي قتل أبيه للاستيلاء على الخلافة.
ولا يعني هذا أنه لم يكن شاعر فذّ؛ لقد برع “البحتري” في الغزل والرثاء والوصف والحكمة بجانب المدح. ويوجد القليل جدَّا من شعر الهجاء في كتبه، لأنه أوصى ولده أن يمحيها؛ والسبب طبعًا رغبته في اكتساب قوَّة حيوية تؤثِّر على جميع الأطراف دون أن تغضب أحدًا منه حتى بعد موته. والدليل، عندما أرادوا تفضيله على أستاذه “أبي تمَّام”، استطاع أن يخرج من هذا المأزق بالقول اللبق حتى لا يغضب المتحيزون ل”أبي تمَّام”. وبنفس الطريقة، تميَّز شعره وصار معروفًا ب”سلاسل الذَّهب” لما طرق الأغراض والمعاني من منظوره، فصار رائد التجديد.
القوَّة الحيوية والمعرفة اهتدى لهما الإنسان البسيط قبل أن يعمل على تشويه فكره وحبس نفسه في أطر من الأنانية وحب الذَّات. وفي عالمنا الحديث شديد التعقيد، يجب إعادة النظر في المفاهيم الشخصية قبل أن نتحوَّل إلى كيانات متفرِّقة لا مستقبل لها ولا نجاح.