فوضى هائلة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعاد جروس *

كان صادمًا ما قاله الشاعر أدونيس لتبرير وُلوجه عالم الفن التشكيلي من خلال لوحات (كولاج) كانت مفاجأة معرض (أبو ظبي آرت) أكبر تجمع فني في العالم العربي، من أن انخراطه في هذا العمل جاء بعدما رأى “العبث الهائل في المجتمع الذي نعيشه”!!

ولعله من العبث حقا أن يشتغل شاعر على ديوان شعر سنة، وأحيانا ثلاث سنوات، ويطبعه، ويشتغل على كولاج ساعة ونصف فيكون”مردوده عشرات أضعاف مردود ديوان الشعر” بحسب قوله. لا نختلف مع الشاعر أدونيس على وجود “عبث” هائل في مجتمعنا العربي والذي تتوضح تداعياته الأكثر سلبية في ميدان الثقافة، من حيث كونها الحصن الأخير للوجدان الإنساني، إذا كان مازال هناك مساحة للحديث عن الوجدان في عالم تسيّد فيه المال وخرّب النفوس. نعم هناك عبث هائل، لكن ماذا يبقى من الثقافة إذا انخرط مثقفون من حجم أدونيس في العبث، وأصبحوا جزءا منه؟!!

ما قاله أدونيس مؤشر خطير جدا على الحال الذي وصل إليه مثقفونا، فهو بذلك لا يمثل ذاته، وإنما يعبر عن واقع عام يبدو فيه المثقفون وكأنهم ارتضوا التخلي عن حريتهم الفكرية والإبداعية ليقعوا في أسر السوق، ومسايرة الرائج.

وما نراه من مهازل الجوائز الثقافية والمعارك الطاحنة التي تخاض حولها ومن أجلها ليس إلا واحداً من مظاهر ذلك الأسْر المهين للثقافة، وآخرها معركة بوكر “العربية” للرواية، والتي تجاوزت مهاترتها خط الأدب والأخلاق لتنزلق إلى درك الشتائم والسباب، منها ما طفا على الصفحات الثقافية ومنها ما بقي ضمن إطار المراسلات الالكترونية، كلام كثير قيل وما زال يقال عن هذه الجائزة وغيرها، وعن مجالس أمنائها ولجان تحكيمها وعدم أهليتهم لتقييم الأعمال الأدبية، والمحسوبيات التي تحكمها والفساد المالي الذي يفوح من جنباتها على رؤوس الأشهاد… منذ ثلاث سنوات والمعركة حامية يزداد سعيرها مع كل دورة، ومع ذلك كل ما قيل لم يغير في مسير الجائزة شيئا، بل صار اللعب على المكشوف، ليس لأن ما قيل عار من الصحة، بل لأن الوقاحة صارت شعار المرحلة، في بازار شراء الثقافة والمثقفين، حتى أن برقع الأدب الذي كانت تتستر خلفه الجائزة، تآكل وكشف بلا خجل أن للحسابات السياسية والعلاقات الشخصية في هذه الجائزة وغيرها الكلمة العليا في منح الجوائز وتوزيع الهبات والمنافع، بقصد تشجيع نوع محدد من “الثقافة الدايت”، طعم حلو ولكن خالٍ من السكر ، ثقافة تعنى برصد كل شيء ولا تقول شيء، ابتداء من قضاء الحاجة ومرورا ببهلونيات ممارسة الجنس بمختلف أنواعه وليس انتهاء بمعاناة المرأة والمثليين في ظل الأنظمة الديكتاتورية والمجتمعات المحافظة. وهذا ما يؤكد أيضا انسحاب أعضاء من لجنة التحكيم لدى إعلان القائمة القصيرة للروايات الست المرشحة لجائزة بوكر العربية الأسبوع الماضي، بسبب عدم استشارتهم في اختيارها!! فمن إذاً اختار تلك القائمة؟

وليس خافيا أن النتائج راعت حملات المثقفين السلطويين سليطي اللسان الجاهزين دائما لخوض معارك إقليمية طاحنة، تحت لافتة الوطنية وكذلك تحصيل جوائز تحسب لبلدانهم لا لأدبائهم حتى لو كانت هذه الجوائز جنائز، تشيع فيها الثقافة العربية إلى مثواها الأخير، ثلاث سنوات على التوالي وبوكر تعطي الحصة الأكبر لدولة عربية بعينها. ومع تقديرنا لريادتها الثقافية لكن ذلك لا يعفي بوكر من الاتهام بالخوف والجبن والتخاذل أمام الاعتبارات السياسية، أو ربما سياسات ثقافية ذات بعد دولي، وممارستها لعبة حرق الأوراق، فمثلا جرى ترويج اسم رواية لبنانية بعينها بأنها حتما فائزة، ما استجلب على الروائية عواصف من النقد المدمر، ليكون خروجها من القائمة القصيرة أضحية لإثبات حسن نيات التحكيم! كل ذلك نموذج يؤكد غياب الأدب عن المعايير. إذاً على أي أساس تمنح الجوائز!! هذا هو السؤال الذي يعرف إجابته الجميع من دون أن تكبح هذه المعرفة جماح التهافت عليها، فالمال المجزي والترجمة إلى لغات أخرى والدعاية والإعلان، كلها أسباب مغرية لمثقفين يبحثون عن موطئ قدم في الساحة الثقافية العربية التي استأثرت بها السلطات السياسية لعقود طويلة وتستأثر بها الآن السلطة المالية الدولية. والمفارقة أن المثقف كان يعاند السلطة السياسية فيكسب حريته والشهرة ويخسر المال، لكن مع تسيد سلطة المال صار الوضع أصعب، فمن يعاندها يخسر كل شيء ويربح حريته فقط، حريته التي لا تطعم خبزا، وقد يموت ولا يدري به أحد .

في ظل الفوضى الهائلة التي أشار إليها أدونيس، لم يعد هناك قيمة للحرية، فإما أن تلحق الركب وتنخرط في الفوضى، لتحّصل ما يمكن تحصيله، أو أن تخرج من اللعبة، لا خيار ثالث، أو ربما هذا ما يروج له مهندسو الفوضى الخلاقة في العالم. لتبقى المشكلة أن حرية الثقافة هي حرية المجتمع، ومن نافل القول إن مجتمعات يرهن فيها المثقفون أنفسهم طوعيا هي مجتمعات مستعبدة ومسيّرة لا مخيّرة في تقرير مصيرها.

 ـــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعرة سورية

مقالات من نفس القسم