فن القصة القصيرة عند سمر نور

في بيت مصاص دماء سمر نور
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمير طاهر*

من يتابع أعمال الكاتبة سمر نور سيلفت نظره أنها تجد حرية أكبر في عالم القصة القصيرة، العالم الذي تنثر فيه رؤيتها الفكرية وقراءتها الشخصية للحياة. أما نتاجها الروائي فقد تخصص -حتى الآن- فيما يمكن وصفه بمشاهدة تحليلية لحياة فتاة مصرية، فقد تابعت الكاتبة هذه الفتاة منذ طفولتها وبلوغها (رواية “محلك سر”) حتى استقلالها في حياتها كشابة مثقفة مكافحة في مصر اليوم (رواية “الست”)، وعندما فازت مجموعتها الأخيرة بجائزة أدبية لفتت الأنظار إلى موهبتها. وتوقُّعي هو أن تكسر الكاتبة التوصيف أعلاه في أعمالها اللاحقة، والسبب هو أنها -على ما يبدو– قد صفَّت حسابها مع حياتها الشخصية وذلك على امتداد الروايتين المذكورتين، ومهم للكاتب -في رأيي- أن يقول كل ما عنده حول سيرته الشخصية لكي يتحرر منها وينطلق في تناول المسائل العامة وشؤون الإنسانية.

قد يبدو مستغربًا أن تلفت رواية “الست” الأنظار في حين لم تفعل ذلك سابقتها “محلك سر” رغم أن الأخيرة أكبر حجمًا وبُذل فيها -كما يبدو- مجهود أكبر. ربما يعود هذا إلى الطاقة العاطفية التي تتحرك في ثنايا رواية “الست” وتجعلها قريبة من عموم القراء. وأتوقع أن يأتي اليوم الذي تتحول فيه هذه الرواية إلى عمل درامي تلفزيوني أو سينمائي لما فيها من عناصر ملائمة.

أود في هذه المساهمة أن أشير إلى علامات رئيسية في القصص القصيرة لسمر نور. ففي هذه القصص تشتغل ثيمات رئيسية وإن اتخذت أشكالًا وأسماء مختلفة. أولها هي فكرة الحرية المغترِبة، أي الحرية بوصفها عالمًا داخليًّا، وطالما ظل هذا العالم سريًّا فصاحبه في أمان، وإلا فصاحبه مهدد بأسوأ المصائر، ذلك لأن هذه الحرية قد وجدت نفسها في المكان الخطأ. إن النموذج المفضل في قصص سمر نور هو نموذج الإنسان المسكون بالحرية الممنوعة. مهما اختلفت الخلفيات الدرامية والأجواء المحيطة بأحداث القصص فإن الموقف الماثل هو -في حقيقته- صراع الأرواح الحرة في دفاعها المستميت عن وجودها. ففي مجتمع منسجم مع عبوديته، تصبح فكرة الحرية بلاء على المؤمنين بها، وتغدو العلاقة بين الإنسان الحر ومجتمعه ضدية وكل منهما يعتبر الآخر بلا عقل.

تتجلى هذه الثيمة -أكثر ما تتجلى- في قصص مجموعتها الأخيرة “في بيت مصاص دماء” (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016). في قصة “غرفة تخص صبري وحده”، التي هي من أفضل قصص المجموعة فنيًّا، يكون الراوي صحفية شابة تجري تحقيقًا عن انتحار النقاش الشاب “صبري”، ثم تجد نفسها معنية بالتوصل إلى فحوى رسالته إلى العالم. كان عليها أن تقوم بتجميع تلك الفحوى من أفواه أشخاص كانوا هم أنفسهم مصدر معاناة صبري. ويتكشف التحقيق عن أن هذا الشاب لم يكن يريد أكثر من أن يكون صادقًا مع نفسه، الأمر الذي لم يحتمله الناس من حوله واعتبروه يهدد سكونهم المتعفن، فأجبروا “صبري” على أن يتبرأ من ذاته (يمحو رسوماته التي على الجدار)، لكنه فضل الموت على أن يفعل ذلك.

تلهم قصة صبري الصحفية (الراوية) وتنتقل عدوى الحرية إليها، حيث “كان التحقيق الذي أجريته عن صبري سببًا أساسيًّا في تركي المنزل رغمًا عن أسرتي”، وإن كان من الممكن أيضًا أن نقرأ هذه السيرورة معكوسة: أي أن لا تكون حكاية صبري سوى ترميز حكائي، أو مرآة عاكسة، لشعور الراوي بالاختلاف والتفرد، فلا يكون “صبري” -في الحقيقة- سوى صرخة الحرية الكامنة في أعماق الصحفية الشابة، رغم أنها موقنة بأن مصير هذه الصرخة هو الخسارة أو الموت. في مواقف مهمة في هذه القصة، من بينها الخاتمة، تحرص الكاتبة على ربط عالم الفتاة الصحفية بعالم الفنان المنتحر، تربطه “بأنشوطة” مشتركة تركها المنتحر وراءه، ربما لها.

كذلك تشتغل ثيمة الحرية المغتربة في القصة التي تحمل المجموعة اسمها، والتي هي –في تقديري المتواضع– عمل فني مهم وثري. تصف القصة –برمزية محبكة– كيف تحول الناس إلى وحوش، يمتصون دماء بعضهم بعضًا:

“خرجت أمها مع سكان الحي المتحولين إلى الشوارع، لممارسة عملها كمصاصة دماء، مثل الجميع. أما الفتاة فقد اختارت الموت التدريجي. رفضت أن تشارك في حفلة الطعام الليلية. لم تقبل الانطلاق في شوارع المدينة وبيوتها لامتصاص الدماء”.

انخرط الكل في هذا التحول من الإنسانية إلى التوحش حتى صار هذا التحول “ضرورة قدرية وليس اختيارًا ترفيهيًّا”– كما يوضح “الوحش” في القصة. وكما هو واضح فما تتحدث عنه القصة نعرفه ونعيشه فيما حولنا، حتى إنه قد يكون من غير المناسب أن نصف القصة بالرمزية. فتقريبًا كل الحوارات والتوصيفات مصاغة بدقة تعبيرية لخدمة رؤية محددة، هي قراءة نفاذة لواقعنا.

جدير بالذكر إن شخصية الوحش تتكرر في أعمال الكاتبة. فبالإضافة إلى هذه القصة سيحضر الوحش في متن وعنوان قصة “شبح يرقص حول جثة” في المجموعة نفسها، وكذلك في قصة “وثالثهم الديناصور الأخير”؛ كما سيأتي رمز “الوحش” أيضًا في قصة طويلة نشرت الكاتبة بعض فصولها على صفحتها الشخصية ويفترض أن تُنشر قريبًا في كتاب. وليس عندي تفسير لسر ولع سمر نور بالوحوش كرمز.

الثيمة الأخرى البارزة في أعمال سمر نور القصصية هي العزلة، التي جرى التعبير عنها في تنويعات مختلفة: مثل الوجود داخل صَدَفة (قصة أجنحة الطائر)، أو ما هو أسوأ: داخل حفرة (قصة حفرة)؛ أو مثل العيش وحيدًا في منزل، أو ما هو أصغر: في غرفة منعزلة؛ أو الانعزال عن العالم في محبس العماء (قصة أذن ترى وعين تسمع)، بالإضافة إلى مقاطع كثيرة سواء في مجاميعها القصصية أو حتى في روايتيها. لكن هل هؤلاء الشخوص مرغمون على هذه الوحدة أم هو اختيارهم؟ أحيانًا نختار العزلة، وأحيانًا نلجأ إليها لنحمي إنسانيتنا. أحيانًا نختار أن نترك عزلتنا، وأحيانًا نتظاهر بذلك وحسب: فحتى في داخل الحفرة “أشعر بالجوع، ومع ذلك أزداد تقوقعًا في مكاني كأني لم أعرف غيره وطنًا” (قصة الحفرة).

بالإضافة إلى السمات المذكورة، واضح أن الكاتبة ترسخ خطواتها في طريق الأسلوب الرمزي، فهو الطاغي من حيث المساحة في عموم نصوصها القصصية. ولا أعني بالأسلوب الرمزي هنا المدرسة الرمزية كما عرفناها لدى كتاب عالميين، التي هي إلى مفارقة الواقع أقرب، إنما أعني ترميز الواقع، والشخصية، ليَتَيَسَّر تفكيكهما. وهي بذلك أقرب الى أسلوب “القصة/ الرواية المفتاحية” الذي تعزى ريادته إلى الكاتب السويدي أوجست ستريندبيرج، حيث يحتوي النص على إشارات (مفاتيح) وإحالات على الواقع يلتقطها القارئ ويفهم دلالاتها رغم أن النص لا ينتمي إلى الأدب الواقعي. سمر نور ميالة إلى اللعب بالواقع، وتستخدم الفن لتحويل الكابوس اليومي إلى كابوس خيالي. وبالنظر إلى واقعنا الراهن في عالمنا العربي يمكننا أن نتفهم هذا التكنيك الدفاعي، فأحيانًا قد يكون الفن آخر ملاذ لنا من الكارثة التي تطوقنا.

هنالك أيضًا صفة تكاد لا تفارق خاتمات قصص سمر نور، أو العديد منها، وهي أنها خاتمات سوداوية. أبطال هذه القصص لا ينقصهم الوعي ولكن امتلاك الوعي لا ينفعهم في النجاة من المأساة المحيطة بهم. فالوعي فردي (وفي أحسن الأحوال نخبوي) بينما المأساة عامة ومستمرة، وهذا الاختلال سيجعل من الوعي بحد ذاته نكبة شخصية للواعي حتى يدفعه إلى اختيار واحدة من تلك الخاتمات الحزينة: الانتحار للرسام صبري، و”الموت التدريجي” للفتاة (في بيت مصاص دماء). ففي ظل المأساة الشاملة وانعدام أية إرهاصات للأمل، يبقى إعلان اليأس هو الشجاعة الوحيدة المتاحة. قد يذكرنا هذا ببطل رواية “اللجنة” لصنع الله ابراهيم: فمثلما تقبلت بطلة سمر نور “الموت التدريجي” ثمنًا لرفضها التحول إلى وحش، كان بطل صنع الله ابراهيم، قبلها، قد تقبل أن “يأكل نفسه” ثمنًا لرفضه الشروط المفروضة عليه. أن تختار نهايتك بنفسك هو ترف الاختيار الوحيد المتاح لك في هذا العالم.

………………

*كاتب من العراق

*نقلاً عن “ميريت الثقافية”

مقالات من نفس القسم