د. نعيمة عبد الجواد
يحتفل العالم العربي في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر من كل عام بذكرى ميلاد فنان الكاركاتير وشاعر الرباعيات الساخر صلاح جاهين (1930-1986). وفن الكاريكاتير والشعر الساخر من أكثر الوسائل حيطة ودهاء لرد المظالم على مر العصور. ولعل من أشهر فناني كاركاتير العصر القديم شاعر العصر العباسي ابن الرومي (836-896) الذي كان من روَّاد فن الكاركاتير، بل وأتقن فن الكاركاتير السياسي شعرًا بقلم وروح شاعر تألوه المرارة والسقم مما آل له حاله من اضمحلال. فمن خلال الشعر الساخر عرف العرب قديمًا فن كاركاتير الكلمات، لكن عرفوه في شكله المُصَوَّر حديثا خلال الحرب العالمية الأولى 1914 من مجلة “اللطائف المصورة” التي كانت تنقل رسومًا كاريكاتيرية عن الصحف الأوروبية. وعلى نفس النهج، تأرجح صلاح جاهين بين فن الكاركاتير المرسوم الذي كان ينشره في الصحف والمجلَّات، والكاركاتير المكتوب في شكل رباعيات، فصار استثناء عبقري، لا مثيل له في موهبته. وفيما يبدو، أن هذا النهج الاستثنائي صار العلامة المميزة له في كل تفاصيل حياته، سواء العملية أو الشخصية.
فصلاح جاهين فنان الكاركاتير فتحت له أكبر جريدة في مصر – “الأهرام” – أبوابها ، وجعلت منه استثناء لكل القواعد الراسخة للجريدة. فعلى سبيل المثال، استصدر محمد حسنين هيكل – رئيس تحرير جريدة الأهرام في حين ذاك – فرمانه الشهير: ” كل من يترك الأهرام لا يعود إليها أبدًا… إلا أبوصلاح”. وامتد تأثيره كاستثناء إلى سُدَّة الحاكم؛ فبسبب كاركاتيره السياسي المرسوم، ورباعياته الشعرية التي تخوض في قضايا سياسية حساسة يُعاقَب كل من يمسها – في زمن الرئيس جمال عبد الناصر – بالسجن أوالاعتقال، اعتلى صلاح جاهين قوائم المستصدر أمرًا عسكريًا باعتقالهم لخمس مرات، وفي كل مرة كان يتدخل الرئيس عبد الناصر شخصيًا ويلغي أمر الاعتقال. ونفس هذا الاستثناء جعله يكتب السيناريو ويؤلف الأغاني، فيتقبلها العامة والخاصة وتعيش معنا حتى الألفية الثالثة؛ فلا يمكن أن تنمحي من ذاكرة الكبار والصغار كلمات أوبريت “الليلة الكبيرة” التي لامست العقول قبل القلوب، وتسربت لوجدان جميع الطبقات الاجتماعية؛ لأنه بالفعل استنبطها من كلمات المارة في الموالد والجلوس على المقاهي.
وأما الاستثناء الأعظم في حياة صلاح جاهين هو كتابة أشعاره باللغة العامية، حين كانت اللغة الفصحى المتأدبة لغة الشعر المقبولة التي تحظى باحترام المثقفين. لكن صلاح جاهين بعبقريته المعهودة أخرج عاميته في شكل جاذب يخوض في قضايا ليست فقط اجتماعية، بل فلسفية عميقة، وألبسها ثوب الرباعيات التي اشتهر بها الشاعر الفذ عمر الخيام (1048-1131). ولإحكام قبضته على زمام شعر الفصحى والشعر الشعبي، استطاع دمجهما في لون واحد “جاهيني” التركيب والطابع. وعلى هذا، صُنِّف جاهين بأنه”شاعر شعبي”، ولا يعني ذلك أن رباعيته الشعرية يتذوَّقها البسطاء فقط، بل أنها سائغة لجميع أفراد الشعب.
وعلى هذا الأساس، جاءت عامية صلاح جاهين راقية متأدبة، تكاد تكون لغة عربية. ومن الجدير بالذكر أن العالم اللغوى الراحل “الدكتور السعيد بدوى” قد ناقش في كتابه “مستويات العربية المعاصرة” قضية أن اللغة العربية لها مستويات خمس. وجاء حقيقة التركيب اللغوي للمجتمع المصري أحد هذه المستويات نظرًا لكونه إشكالية منشأها فصل العامية الدارجة عن كيان الفصحى. وبالتحليل اللغوي المنطفي، يتبيَّن أن هذا الفصل الحاد يتنافى مع الواقع؛ حيث أن طبقات المجتمع المصري الثقافية والحضارية متداخلة بصورة يتعذر الفصل بينها وبين مستويات اللغة فيها. ومن ثمَّ، تتداخل العامية مع الفصحى فيما يشبه السُّلَّم اللغوي، ولكل فرد مكان على السُّلَّم يتوافق مع خلفياته الثقافية والاجتماعية.
وعند تحليل رباعيات صلاح جاهين لغويًا، تبَيَّن أن تراكيبها ومفرداتها تنتمي للغة العربية، وإن شابها بعض الكلمات الدارجة لتعكس الواقع اللغوي المصري. والتحليل اللغوي والأسلوبي لرباعياته يلقي الضوء على مفهومه الشخصي للشعر؛ فالشعر بالنسبة له “ضمير لا يتجزأ”، فالكلمات خارج دائرة الشعر لها قيمة ومكانة محفوظة، وأما ارتباط المفردات بالحركات الإعرابية في الشعر والأعمال الأدبية الأخرى لا يمنحها قداسة أو قيمة مضافة، مما يؤكد أن رباعياته ليست دون اللغة. واعترف الكاتب الكبير يحى حقِّي بعبقرية جاهين الشعرية، وإن تمنى أن تكون رباعياته “عاقرًا”؛ حتى لا تهدد اللغة العربية.
وهنا يبرز استثناء آخر يتميَّز به صلاح جاهين عن غيره. فمن المعروف عن هذا الفنان الشاعر الاهتمام بالتفاصيل؛ فعلى سبيل المثال، عند رسمه لمنزل، فهو يهتم برسم الملابس والمتعلقات الشخصية ونوع الأثاث الذي يناسب مع الطبقة الاجتماعية، فيجد القاريء نفسه أمام منزل مصري يؤكد صدق الكاريكاتير الساخر الذي يعبر عما يجيش به صدر المواطن من هموم، كما يظهر في الرباعية التالية التي تفيض بالمرارة.
أنا قلبى كان شُخْشيخه.. أصبح جَرس
جلجلت به؛ صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه؟ خفتوا ليه؟
لا فْـ إيدى سيف.. ولا تحت منى فرس!
عجبي!!
فالمهرج هنا هو الشعب المصري الذي يخفي وراء تنكره المغلَّف بالبسمة، مرارة القمع والإحساس بالظلم. وبلجوء المواطن المقهور للسخرية يتحول قلبه إلى جرس؛ فيستخدمه لزيادة وعي أقرانه، وفي نفس الوقت يبث به الرعب في قلوب الطغاة.
وعكس جاهين في رباعياته مفردات عصره، وخاصة الحقبة الناصرية التي عاش تفاصيلها، فحملت رباعياته ورسومه الكاركاتيرية شعار الاشتراكية، ومطالب الشعب التي غلَّفها في إطار شعارات للثورة على الفساد والقمع والمطالبة بمحاكمة “مصاصي جهد الشعب”، وأيضًا أوضح مطالب البسطاء؛ مثل رفع الرواتب وتوفير فرص عمل للشباب. وفي نفس الوقت، رسَّخ في ذهن الشعب صورة رائعة لقائدهم؛ فلقد جعل الجموع يتناقلون صورة عبد الناصر أنه “القائد المحبوب” و”الرئيس ابن البلد” الذي يحاول أن يحقق آمال شعبه.
وأهم استثنائيات صلاح جاهين أنه بات آلة إعلامية برَّاقة قوامها كاركاتير أبطاله شخصيات قريبة من الشعب، وكذلك رباعيات متفلسفة كُتبت بِلُغَة العامَّة فصار بنيانها استثنائي. فجميع شطرات رباعياته تحمل نفس القافية، فيما خلا الشطر الثالث الذي يأتي مغايرًا ليس فقط ليخرج القاريء من رتابة التكرار ولكن ليركِّز انتباهه للخلاصة المكثفة التي تعطي دلالة فلسفية خالصة وشاملة لموضوع جاهين راغبًا في الإلحاح عليه.
صلاح جاهين فنان مدموغ بطابع الاستثناء؛ لأنه يعبِّر عن هموم إنسانية ويخوض في موضوعات نفسية ومعنوية، فيتحدث عن الحرية والظلم والقهر والرغبة في الارتقاء لحياة أفضل. الفنان الساخر صلاح جاهين هو مصري أصيل يضحك على آلامه، وسخريته سلاح استثنائي لردع المفسدين.